الجمعة، 10 أبريل 2009

المبحث الثالث : اختيار قريش ولغتها لنزول القرآن بها , والسر فى ذلك :
اصطفى الله عز وجل نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم من بين أفصح الناس , وأنزل عليه القرآن الكريم بأفصح لغات العرب ولهجاتها . وهذا أمر مقصود إليه لحكمة أرادها الله عز وجل , فلهجة قريش – فوق الذى أحيطت به من مظاهر التقديس – انفردت حقاً بمزايا حفظت لها شخصيتها , وأتاحت لها من أسباب التكامل ما لم يتح لغيرها .
فبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتها كان حاجزاً طبيعياً دون كثرة اتصالها بالأجانب , فلم يداخلها من لكنة الأعاجم ما داخل القبائل المتطرفة التى كانت على اتصال وثيق بمن حولها من غير العرب , وهذا ما أشار إليه ابن خلدون فى المقدمة حيث قال : " ... ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصحها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتها , ثم من اكتنفهم من ثقيف , وهذيل وخزاعة , وبنى كنانة , وغطفان , وبنى أسد , وبنى تميم . وأما من بعد عنهم من ربيعة , ولخم , وجزام و وغسان , وإياد , وقضاعة ,وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس , والروم , والحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم , وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم فى الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية " ([1])
كما كانت قريش تنتقى للفصيح من لغات القبائل , وتضمه إلى لغتها مما جعلها أفصح العرب . وفى ذلك يقول أبو النصر الفارابى فى أول كتابه المسمى بــ " الألفاظ والحروف " : كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق , وأحسنها مسموعاً , وأبينها إبانة عما فى النفس ". وقال ابن فارس : "حدثنا إسماعيل بن أبى عبيد الله قال : أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم , والعلماء بلغاتهم , وأيامهم , ومحالهم أن قريشاً أفصح العرب ألسنة , وأصفاهم لغة , وكانت قريش مع فصاحتها , وحسن لغتها , ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التى طبعوا عليها , فصاروا بذلك أفصح العرب "([2]) ولقد تميزت لغة قريش من سائر اللغات العربية بالوضوح والرقة , وسلمت من التباس مخارج الحروف , واختلاطها بعضها بعض , فليس فيها شئ من تلك الحروف التى ذكر اللغويون أنها مستقبحة , ولا الحروف التى مخرجها بين حرفين من الحروف الفصيحة . أما اللغات الأخرى فتتميز بالخشونة , ومزج الحروف بعضها ببعض , كما يرى فى الإدغام , والإمالة , والإشمام , والأصوات المرغوب عنها ([3]) وكان أبو حاتم السجستانى يفضل لغة قريش على ما سواها , ويقيس الفصاحة فى القبائل بنسبة قربها منها . يقول : " وأحب الألفاظ واللغات إلينا أن نقرأ بها لغات قريش , ثم أدناها من بطون مضر , والمراد بالدنو : دنو الدار ؛ لأنه سبب فى تدانى اللغات "([4]) ويظهر ابن خالويه انبهاراً شديداً باللغة القرشية إذ يقول : " إنما النحوى الذى ينقر عن كلام العرب , ويحتج عنها , ويبين ما أودع الله تعالى هذه اللغة الشريفة هذا القبيل من الناس , وهم قريش "([5])
ولعل من أسباب ذلك طبيعة الحياة الحضرية المكية , وطبيعة الحياة البدوية التى تحياها القبائل العربية التى أخذت عنها اللغة . فالتأنق والتروى سمة من سمات الحضارة , والعفوية والسرعة من خلائق البادية .ولقد فطن الجاحظ إلى ذلك فى زمانه فقال : " ولأهل المدينة ألسن ذلقة , وألفاظ حسنة "([6]) ومما يلاحظ هنا أن الذين شهدوا لقريش وللغتها بالنصوع والفصاحة لم يكونوا من قريش , بل بعضهم من غير العرب , فجرير ليس من قريش , وكذلك العباس بن مرداس السلمى , والأعرابى من جرم , وقتادة , وأبو حيان التوحيدى , وأبو حاتم السجستانى , وابن خالويه فليتأمل ذلك !
كما كان للظروف الدينية أثر كبير ؛ لأن بيئة مكة كانت منذ عهود سحيقة قبل الإسلام بيئة مقدسة يفد إليها العرب من كل فج ليحجوا إليها , وهذا يؤدى بالطبع إلى اجتماع فريق كبير من العرب فى هذه البقعة المباركة , واختلاطهم بأهلها , واختلاط أهلها بهم ... وهذه القبائل لم تفد إلى مكة للحج والعبادة فقط وإنما ليشهدوا كذلك تلك الأسواق التى تقام حول مكة للبيع والشراء , وكانت تعقد فى تلك الأسواق ندوات أدبية للخطباء والشعراء , ويسمع فيها من عيون الشعر , وجيد القول كما كانت الحال فى سوق عكاظ المشهورة . يقول الأستاذ / سعيد الأفغانى : " كانت مواسم أسواق عكاظ , وجنة , وذى المجاز تقع فى أيام حجهم , وهى أعمر أسواق العرب بمختلف القبائل يأتونها من كل أوب ومعهم خيرات بلادهم , وتلك ميزة لا تتمع بها بلدة غير مكة , ولا قوم غير قريش , ولقد امتن الله عليهم بذلك فقال تعالى : ( أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ القصص : 57 ] وقال : ( أول يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم ... ) [ العنكبوت : 67 ]([7])

وهناك عامل اقتصادى آخر له أهميته فإن أهل مكة كانوا تجاراً ينتقلون بتجارتهم فى أماكن مختلفة , ويرتحلون بها إلى اليمن فى الشتاء , وإلى الشام فى الصيف , ولا يستقرون فى مكان إلا بمقدار الزمن الذى يحدده لهم البيع والشراء . هذا النشاط التجارى الضخم قد أتاح لهم الغنى والثراء ومن ملك المال , واحتضن الدين فقد تحقق له سلطان سياسى قوى , وكان أكثر حضارة , وأقوى نفوذاً من غيره ؛ ولهذا كانت اللهجة القرشية من أقوى اللهجات أثراً فى تكوين اللغة العربية الفصحى "([8])
فاختار الله لوحيه لغة من أفصح اللغات ([9]) لم تطلها يد التحريف والتبديل لتكون خالدة بخلود القرآن الكريم . قال جل ثناؤه : ( وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين ) [ الشعراء : 192 – 195 ] فوصفه سبحانه بأبلغ ما يوصف به الكلام وهو البيان . فاللغة العربية من أفضل اللغات وأوسعها بما فيها من الاستعارة , والتمثيل , والقلب , والتقديم والتأخير , وغيرها من سنن العرب فى القرآن ([10]) ولا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شئ من الألسنة كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية , وترجمت التوراة والزبور , وسائر كتب الله عز وجل بالعربية ؛ لأن العجم لم تتسع فى المجاز اتساع العرب كما يقول ابن فارس ([11])
ومن أجمع ما قيل حول مكانة قريش , ومنزلتها ما ذكره الثعالبى ت (429)هـ فى كتابه " ثمار القلوب فى المضاف والمنسوب " حيث يقول : " كان يقال لقريش فى الجاهلية أهل الله ؛ لما تميزوا به عن سائر العرب من المحاسن والمكارم , والفضائل والخصائص التى أكثر من أن تحصى . فمنها مجاورتهم بيت الله تعالى , وإيثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله , وصبرهم على لأواء مكة وشدتها , وخشونة العيش بها . ومنها ما تفردوا به من الإيلاف , والوفادة , والرفادة , والسقاية والرياسة , واللواء , والندوة . ومنها كونهم على إرث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من قرى الضيف , ورفد الحاج والمعتمرين , والقيام بما يصلحهم , وتعظيم الحرم , وصيانته عن البغى فيه والإلحاد , وقمع الظالم , ومنع المظلوم , ومنها كونهم قبلة العرب , وموضع الحج الأكبر , يؤتون من كل أوب بعيد , وفج عميق , فترد عليهم الأخلاق , والعقول والآداب , والألسنة , واللغات , والعادات , والصور , والشمائل عفواً بلا كلفة ولا غرم , ولا عزم ولا حيلة , فيشاهدون ما لم تشاهده قبيلة ... فكثرت الخواطر , واتسع السماع , وانفسحت الصدور بالغرائب التى تتخذ , والأعاجيب التى تحفظ , فثبتت تلك الأمور فى صدورهم وأضمرت... والقوم فى الأصل مرشحون للأمر الجسيم , فذلك صاروا أدهى العرب , وأعقل البرية , وأحسن الناس بياناً , وصار أحدهم يوزن بامة من الأمم , وكذلك ينبغى أن يكون الإمام , فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يزن جميع الأمم . ومنها ثبات جودهم , وجزيل عطاياهم , واحتمالهم المؤن الغلاظ فى أموالهم المكتسبة من التجارة , ... وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشدد فى الدين , فتركوا الغزو كراهة للسبى واستحلال الأموال , فلما زهدوا فى الغصوب لم يبق مكسبة سوى التجارة , فضربوا فى البلاد إلى قيص بالروم , والنجاشى بالحبشة , والمقوقس بمصر , وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء , فكانوا مع طوا ترك الغزو إذا غزوا كالأسود فى فرائسها , مع الرأى الأصيل , والبصيرة النافذة . فهذا يسير من كثير من خصائصهم فى الجاهلية , ولما جاء الله تعالى بالإسلام , وبعث منهم خير خلقه , وأفضل رسله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تظاهر شرفهم , وتضاعف كرمهم , وصاروا على الحقيقة أهلاً لأن يدعو أهل الله . وسأل عمر بن الخطاب رضى الله عنه نافع بن عبد الحارث الخزاعى حين قدم عليه من مكة من استخلفت على مكة . قال : ابن أبزى . قال : أتستخلف على أهل الله مولى .؟! قال : إنه أقرؤهم لكتاب الله تعالى . قال : إن الله تعالى يرفع بالقرآن أقواماً . وقال الاعشى وهو يعاتب رجلاً ويخبر أنه مع شرفه لم يبلغ مبلغ قريش:
فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا * ولا لك حق الشرب فى ماء زمزم ([12])
ولقد وصفهم الجاحظ , ومدح بنى هاشم بقوله : " قد علم الناس كيف كرم قريش وسخاؤها , وكيف عقولها و ودهاؤها , وكيف رأيها وذكاؤها , كيف سياستها وتدبيرها , وكيف إيجازها وتحبيرها , وكيف رجاحة أحلامها إذا خف الحليم , وحدة أذهانها إذا كل الحديد , وكيف صبرها عند اللقاء , وثباتها فى اللأواء , وكيف وفاؤها إذا استحسن الغدر , وكيف جودها إذا حب المال , وكيف ذكرها لأحاديث غد , وقلة صدودها عن جهة القصد , وكيف إقرارها بالحق , وثبرها عليه , وكيف وصفها له , ودعاؤها إليه , ... بل قد علم الناس كيف جمالها وقوامها , وكيف نماؤها وبهاؤها , وكيف سروها ونجابتها , وكيف بيانها وجهارتها , وكيف تفكيرها وبداهتها , فالعرب كالبدن وقريش روحها , وقريش روح وبنو هاشم سرها ولبها , وموضع غاية الدنيا والدين منها ..." ([13])

(2) المقدمة صـ 765 ط دار الفكر – 01421) – (2001) م , و دراسات فى فقه اللغة صـ 112 للدكتور/ صبحى الصالح – ط دار العلم للملايين – ط الثانية عشرة – (1989) م .
(3) لغة قريش صــ276 ,277 للأستاذ/ مختار الغوث. والنص السابق نقله عن المزهر 1/210
(1) فلقد روى الأصمعى أن معاوية قال : أى الناس أفصح ؟ فقال رجل من السماط : يا أمير المؤمنين قوم ارتفعوا عن رتة العراق , وتياسروا عن كشكشة بكر [ أى إبدال الشين من كاف الخطاب للمؤنث ] وتيامنوا عن شنشنة تغلب [ أى جعل الكاف شيناً مطلقاً ] ليست فيهم غمغمة قضاعة [ أى سماع الصوت مع عدم تبين تقطع الحروف ] ولا طمطمانية حمير [ أى كون الكلام مشبهاً لكلام العجم ] . قال : من هم ؟ قال : قومك يا أمير المؤمنين [ قريش ] قال : صدقت فمن أنت ؟ قال : من جرم . قال الأصمعى : جرم فصحاء العرب . العقد الفريد – كتاب اليتيمة فى النسب وفضائل العرب – فضل قريش 3/274 , وما بعدها – ط دار الكتب العلمية – ط أولى – (1404) هــ (1983) م , والبيان والتبيين 3/212 ,213 وزاد فى الخبر من قول الأعرابى " قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات [أى العجمة فى المنطق ] وتيامنوا عن عنعنة تميم [ قولهم فى موضع إن عن ] وتياسروا عن كسكسة بكر [ أى جعل بعد كاف المذكر أو مكانها سيناً ]هذا ولقد وصف العباس بن مرداس السلمى بنى عبد المطلب فى الجاهلية بأن منطقهم كالوبل على المحل . وإن كان الممدوح هاهنا ربما كان البلاغة لا اللغة القرشية . ولقد عقب أبو حيان التوحيدى على كلام العباس بن مرداس بقوله : " ولقد قرع العباس بهذا الكلام باب الغيب , وشعر بالمستور , وأحس بالخافى , وأطلع عقله على المستتر ... وهذا شئ فا شفى العرب لطول وحدتها , وصفاء فكرتها , وجودة بنيتها , واعتدال هيئتها , وصحة فطرتها , وخلاء ذرعها , واتقاد طبعها , وسعة لغتها , وتصاريف كلامها فى أسمائها , وأفعالها , وحروفها , وجولانها فى اشتقاقاتها , ومآخذها البديعة فى استعاراتها وغرائب تصرفها فى اختصاراتها , ولطف كناياتها فى مقابلة تصريحاتها , وفنون تبحبحها فى أكناف مقاصدها , وعجيب مقاربتها فى حركات لفظها , وهذا وأضعافه مسلم لهم , وموفر عليهم , ومعروف فيهم , ومنسوب إليهم ... إلى أن قال : إلى غير ذلك مما خصت به فى جاهليتها قبل الإسلام مما لا سبيل إلى دفعه وجحوده ... " الإمتاع والمؤانسة صـ53 لأبى حيان التوحيدى ط مكتبة المصطفى . كما تنبه إلى ذلك جرير الشاعر لما زار مكة , واجتمع بطائفة من فتيان قريش , وسره ما رأى من طبائعهم فقال يعبر عن إعجابه بهم فى خبر طويل : " ... فكيف ومع هذا بيت الله الحرام , ووجوهكم الحسان , ورقة ألسنتكم " لغة قريش صـ33 نقلاً عن الأغانى 1/278 , وراجع فى العقد الفريد كلام عمرو بن عتبة فى وصف كلام قريش 3/274 , وما بعدها .
(2) لغة قريش صـ278 نقلاً عن البرهان 1/285
(3) لغة قريش صـ279 نقلاً عن المزهر 1/213
(4) لغة قريش صـ33 نقلاً عن البيان والتبيين 1/146
(1) يقول الأستاذ/ سعيد الأفغانى : " ولا يقل عن النشاط التجارى فى أسواقنا تلك أثر هذا الاختلاط فى اللغة والدين والعادات , فإن قيام قريش عليها الأعوام الطويلة قبل البعثة مكنها من أن تتبوأ فى اللغة المكان الأعلى ؛ لأن لغات القبائل عامة يمنيها , وعمانيها و وشاميها , وعراقيها و ونجديها , وتهاميها تطرق مسامعها على الدوام فتختار منها ما يحسن , وتنفى منها ما يقبح , وقامت على هذا الاصطفاء زمناً كافياً حتى خلصت لها هذه اللغة الممتازة , وتهيأت لينزل بها القرآن على أفصح وجه وأبلغه , وأتمه كمالاً وسلاسة وجمالاً " أسواق العرب فى الجاهلية والإسلام صـ 91 , وما بعدها ط مكتبة دار العروبة – ط رابعة – (1413) – (1993) م. والصاحبى فى فقه اللغة صــ13 , وتاريخ آداب العرب 1/82 للرافعى – ط مكتبة الإيمان
(2) فصول فى فقه العربية صـ 78-80 للدكتور/ رمضان عبد التواب – ط مكتبة الخانجى – ط ثانية .
(3) مما تجدر الإشارة إليه هنا ما زعمه أكثر المستشرقين من أن اللغة التى نزل بها القرآن ليست لغة قريش , وأن من قال ذلك من المسلمين كان منساقاً مع عاطفته الدينية ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قرشى , والقرآن منزل عليه فلابد من أن تكون لغته لغة قريش , ومثل هذا القول فى التأثر بالعاطفة – فى نظرهم – ما وصفوا به لغة قريش من الفصاحة والسمو على سائر اللغات . وعلى اتفاق هذه الطائفة فى هذا الرأى تختلف فى لغة القرآن ماهى ؟ ألغة قبيلة أم لغة أدبية نشأت من بين اللغات ؟ وأين نشأت ؟ ومتى ؟ وكيف ؟ . وثمة طائفة صغيرة من المستشرقين تخالف آراء الطائفة الأولى , وتميل إلى قول لا يوافق علماء المسلمين لكنه يقاربه . والطائفة الأولى , وبعض الثانية يذهبون إلى أن العرب كان لهم مستويان من اللغة : أدبى هو لغة الشعر والخطابة , وعامى لأمور الحياة العادية . ويمثل الطائفة الأولى : بروكلمان , ورابين , وفولرز , وكاله , وشبتيالر , ونللينو , وفتشتاين , وبلاشير , وآربيرى , وجويدى , وهارتمن , وزويتلر . والفئة الثانية من المستشرقين على خلافها مع الأولى ليست متفقة فيما بينها , فنولدكة مثلاً لا يرى أنه كانت للعرب لغة عامية , وأخرى أدبية مشتركة . أما عن المحدثون من العرب فلقد انقسموا فى هذه القضية قسمين : قسم يرى ما ذهب إليه الأقدمون من أن لغة قريش هى أفصح اللغات العربية , وأن القرآن نزل بها – وإن كان فى آراء بعضهم تأثر بآراء المستشرقين – فهم يرون أن هذه اللغة الفصحى التى هى لغة قريش أنها كانت لغة طبيقة , أى تختص بفئة من العرب كالشعراء , والخطباء . والقسم الثانى من المحدثين المتأخرين - وما يزال أكثرهم حياً - لا يكاد يختلف فى شئ عن آراء المستشرقين . وما ذكروه من وجود لغة مشتركة أو مثالية يتفق العرب جميعاً على استعمالها فى الأدب , ومقامات الجد ... كلام لا سند له ولا أساس له من الصحة , ولم يظهر هذا الكلام إلا فى العصر الحديث , ويبدو أن الاستشراق هو الذى أدخل هذا الرأى إلى الفكر اللغوى الحديث , وتأثر به - للأسف - بعض المحدثين العرب من المفتونين بكل ما جاء عن المستشرقين , واقتنعوا بوجود مستويين من اللغة عند العرب !! وقارئ التراث اللغوى لا يجد فيه إشارة إلى هذين المستويين , كما لا يجد ما يفيد أن العربى كان يعدل عن لغته إلى لغة سواها لأمر من الأمور إلا أن يضطره وزن أو قافية . ومن ينشد الحق , ولم تستعبد قلبه تآليف المستشرقين , وآثر الصدق مع نفسه , لا يسعه إلا أن ينكر وجود لغة مشتركة , وأخرى عامية , بل ويبالغ فى الإنكار ؛ لأن الأدلة كلها تقود إلى خلاف رأى المستشرقين , ومن تابعهم . فرواة اللغة الموثقون الذين تخللوا المناطق التى قرروا انها مظنة الفصاحة , ودونوا لغة أهلها لم يذكروا أن لهم مستويين من اللغة , مع أنهم سجلوا كلام الصغير والكبير , والرفيع والوضيع , والعاقل والمجنون , وكلام النساء والإماء . ولمزيد من التفصيل ينظر لغة قريش صـ282 , وما بعدها . وهو بحث قيم , وأصله رسالة تقدم بها المؤلف لنيل درجة - التخصص - الماجستير فى كلية الآداب – جامعة الملك سعود – سنة (1411) هــ . وقد ألم فيه الأستاذ/ مختار الغوث بأطراف الموضوع , وفصل الأدلة , وكر على أدلة المستشرقين ففندها , ودمغها بالأدلة القاطعة , والبراهين الساطعة , فجزاه الله خير الجزاء .
(4) وهذا مما شهد به المستشرقون . فلقد أشار جيوم فى مقدمته لكتاب تراث الإسلام للغة العربية , ووصفها بأنها لغة عبقرية فى مرونتها واشتقاقاتها ... كما أشار ماسينون إلى بعض جوانب العبقرية فى اللغة العربية فقال : إن المنهاج العلمى انطلق أول ما انطلق باللغة العربية , ومن خلال العربية فى الحضارة الأوربية ... إن اللغة العربية أداة خالصة لنقل بدائع الفكر فى الميدان الدولى . ينظر اللغة العربية والصحوة العلمية الحديثة صـ10 ,11
(1) راجع تفصيل ذلك وأمثلته فى كتاب الصاحبى صـ16 – 25 لابن فارس – ط عيسى البابى الحلبى .
(2) ثمار القلوب صــ10-16 باختصار شديد ط دار المعارف – (1384)هـ(1965) م .
(1) زهر الآداب 1/87 – 89 باختصار ط المكتبة العصرية – ط أولى – (1421)هـ (2001) م .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق