الجمعة، 10 أبريل 2009

الإيجاز والإطناب والمساواة :

الإيجاز :
الإيجاز باب عظيم من أبواب البلاغة، بل بعضهم عرف البلاغة بأنها الإيجاز، فلقد سأل معاوية بن أبى سفيان صُحار بن عَيَّاش العبدى ما تعدون البلاغة فيكم؟ قال: الإيجاز(1).
وعرفه صاحب المفتاح بأنه "أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط"(2).
"ومتعارف الأوساط الذين ليس لهم فصاحة وبلاغة، ولا عى وفهاهة"(3).
وهو ضربان:
* الأول: إيجاز القِصَر: وهو ما ليس يحذف كقوله تعالى: ) وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ((4) فإنه لا حذف فيه مع أن معناه يزيد على لفظه، لأن المراد به أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتَل قُتل كان ذلك داعياً له قوياً إلى ألا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذى هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض فكان ارتفاع القتل حياة لهم، وفَضَلُه على ما كان عندهم أوجز كلاماً فى هذا المعنى، وهو قولهم: "القتل أنفى للقتل"(5).
* الثانى: وهو ما يكون بحذف، والمحذوف إما جزء جملة أو جملة أو أكثر من جملة.
- وجزء الجملة المحذوف إما مضاف كقوله تعالى: ) وَاسْأَلِ القَرْيَةَ...((6) أى أهلها.
- وإما صفة: كقوله تعالى )... وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً( (7) أى كل سفينة صحيحة، أو صالحة أو نحو ذلك بدليل ما قبله. وإما غير ذلك.
- وإما كان المحذوف جملة، فهو إما مسبب ذكر سببه كقوله تعالى: ) لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ( (8). أى فعل ما فعل.
- وإما سبب ذكر مسببه كقوله تعالى: )... فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ...((9). أى امتثلتم فتاب عليكم وإما غير ذلك.
- وقد يكون المحذوف أكثر من جملة كقوله تعالى: ) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى...( (1).
أى ضربوه ببعضها فحيى فقلنا: " كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى ".
- والحذف على وجهين:
- أحدهما: ألا يقام شئ مقام المحذوف.
- ثانيهما: أن يقام مقـامه ما يدل عليه كقـوله تعالى: ) فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ...( (2). ليس الإبلاغ هو الجواب لتقدمه على توليهم والتقدير: فإن تولوا فلا لوم علىَّ لأنى قد أبلغتكم" أى فلا عذر لكم عند ربكم لأنى قد أبلغتكم.
- وأدلة الحذف (3) كثيرة: منها أن يدل العقل على الحذف، والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف كقوله تعالى: )حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ....( (4). فالمقصود الأظهر يرشد إلى أن المقصود حرم عليكم نكاح أمهاتكم.
- ومنها أن يدل العقل على الحذف والتعيين كقوله تعالى: ) وَجَاءَ رَبُّكَ.....( (5). أى أمر ربك أو عذابه أو بأسه أو غير ذلك من أدلة الحذف (6).

* الإطناب وأقسامه :
ذكر صاحب الطراز: "أن الإطناب وادٍ من البلاغة، ولا يرد إلا فى الكلام المؤتلف، ولا يختص بالمفردات؛ لأن معناه لا يحصل إلا فى الأمور المركبة" (7).
وعرفه صاحب المفتاح بأنه: "أداء المقصود من الكلام بأكثر من عباراتهم سواءٍ كانت القلة أو الكثرة راجعة إلى الجمل أو إلى غير الجمل (8).
وذكر الخطيب تسعة من أقسامه وهى: "الإيضاح بعد الإبهام وفروعه، والتوشيع، وذكر الخاص بعد العام، والتكرير، والإيغال، والتذييل، والتكميل "الاحتراس"، والتتميم، والاعتراض".
وأشار إلى أن الإطناب قد يكون بغير هذه الأنواع"(1). وسأكتفى بالإشارة إلى الأقسام التى ذكرها القونوى فى حاشيته حرصاً على الاختصار فيما لا يحتاج البحث إليه، وهى:
الإيضاح بعد الإبهام(2)، وذكر الخاص بعد العام، والتكرير، والتذييل والتكميل، والاعتراض.

1- الإيضاح بعد الإبهام وفروعه:
ذكر الخطيب أن الإطناب يكون بالإيضاح بعد الإبهام، ليرى المعنى فى صورتين مختلفتين، أو ليتمكن فى النفس فضل تمكن، فإن المعنى إذا ألقى على سبيل الإجمال والإبهام، تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح، فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك، فإذا ألقى كذلك تمكن فيها فضل تمكن، وكان شعورها به أتم، أو لتكمل اللذة بالعلم به، فإن الشئ إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدم حصول اللذة به ألم، وإذا حصل الشعور به من وجه تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول، فيحصل لها بسبب المعلوم لذة، وبسبب حرمانها من الباقى ألم، ثم إذا حصل لها العلم به حصلت لها لذة أخرى، واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التى لم يتقدمها ألم، أو لتفخيم الأمر وتعظيمه كقوله تعالى: ) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي( (3). فإن قوله )اشرح لى( يفيد طلب شرح لشئ ماله، وقوله )صدرى( يفيد تفسيره وبيانه، كذلك قوله )ويسر لى أمرى( والمقام مقتضى للتأكيد للإرسال المؤذن بتلقى المكاره والشدائد(4).

2- ذكر الخاص بعد العام :
ذكر البلاغيون أن ذكر الخاص بعد العام يكون للتنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنسه تنزيلاً للتغاير فى الوصف منزلة التغاير فى الذات كقوله تعالى: ) مَن كَانَ عَدُواًّ لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ( (5).

وهذا النوع يجب أن يكون بطريق العطف وإلا كان من باب الإيضاح بعد الإبهام؛ ولذلك عقب سعد الدين على الخطيب بقوله: "فلو قال وإما بعطف الخاص على العام لكان أوضح"(6)

3- التكرير :
وهو ذكر الشئ مرتين أو أكثر لأغراض(1). أو دلالة اللفظ على المعنى مردداً لتأكيد غرض من أغراض الكلام أو المبالغة فيه(2).
- كتأكيد الإنذار كما فى قوله تعالى: ) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ((3).
- وقد يكرر اللفظ لطول فى الكلام كما فى قوله تعالى: ) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ((4).
- وقد تكرر لتعدد المتعلق كما فى قوله تعالى: ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( (5).
لأنه تعالى ذكر نعمة بعد نعمة، وعقب كل نعمة بهذا القول، ومعلوم أن الغرض من ذكره عقيب نعمة غير الغرض من ذكره عقيب نعمة أخرى(6).

4- التذييل :
وهو تعقيب الجملة بجملة تشتمل على معناها للتوكيد وهو ضربان :
- الأول: ضرب لا يخرج مخرج المثل لعدم استقلاله بإفادة المراد، وتوقفه على ما قبله كقوله تعالى: ) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الكَفُورَ ( (7). إن قلنا: إن المعنى: وهل نجازى ذلك الجزاء(8).
وقال الزمخشرى: "وفيه وجه آخر، وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة ويستعمل تارة فى معنى المعاقبة، وأخرى فى معنى الإثابة، فلما استعمل فى معنى المعاقبة فى قوله )جزيناهم بما كفروا( بمعنى: عاقبناهم بكفرهم قيل: "وهل نجازى إلا الكفور" بمعنى وهل نعاقب؟ وهو الوجه الصحيح(9).
- الثانى: ضرب يخرج مخرج المثل كقوله تعالى: ) وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ( (10).
5- التكميل أو الاحتراس(1) :
وهو أن يؤتى فى كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه، وهو ضربان :
- الأول: ضرب يتوسط الكلام كقول طرفه :
فسقى دياركَ غيرَ مفسدها :. صوب الربيع وديمة تهمى(2)
فالصوب: المطر، والديمة: المطر المسترسل، وتهمى بمعنى تسيل والاحتراس فى قوله "غير مفسدها" لأن المطر المسترسل قد يخرب الديار.
-الثانى: ضرب يقع فى آخر الكلام كقوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ ….. ( (3).
فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لتوهم أن ذلتهم لضعفهم، فلما قيل (أعزة على الكافرين) عُلم أنها منهم تواضع لهم ولذا عدى الذل بعلى لتضمينه معنى العطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع، ويجوز أن تكون التعدية بعلى لأن المعنى أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم (4).

6- الاعتراض :
وهو أن يؤتى فى أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى ما ذكر فى تعريف التكميل.
ويأتي الاعتراض لأغراض بلاغية :
- كالتنزيه والتعظيم فى قوله تعالى : ) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ((5)
- والتنبيه على سبب فيه غرابة كقوله تعالى: )لو تعلمون( من قولة تعالى : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (6)(.
والاعتراض قد يأتى بالواو أو الفاء ، وتسمى كل منهما اعتراضيه، وقد لا يأتى بهما.
- ووجه حسن الاعتراض على الإطلاق حسن الإفادة مع أن مجيئه مجئ مالا معول عليه فى الإفادة، فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها.
- ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض البلاغيين لا يشترط فى الاعتراض أن يكون واقعاً فى أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى، بل يجوز أن يقع فى آخر كلام لا يليه كلام، أو يليه كلام غير متصل به معنى، وبهذا يشعر كلام الزمخشرى فى مواضع من الكشاف فالاعتراض عند هؤلاء يشمل التذييل.
وفريق آخر يشترط فى الاعتراض أن يكون واقعاً بين كلامين متصلين، ولكن لا يشترط أن يكون جملة أو أكثر من جملة، فالاعتراض عند هؤلاء يشمل من التتميم ما كان واقعاً فى أحد الموقعين ومن التكميل ما كان واقعاً فى أحدهما وليس له محل من الإعراب جملة كان أو أقل من جملة أو أكثر"(1)

* المساواة :
وهى تأدية المعنى المراد بعبارة مساوية له بأن تكون المعانى بقدر الألفاظ، والألفاظ بقدر المعانى لا يزيد بعضها على بعض وهى الأصل المقيس عليه، والدستور الذى يعتمد عليه … وقد اعتبرها بعض البلاغيين وسطاً بين الإيجاز والإطناب، وبعضهم يدمجها ولا يعدها قسماً ثالثاً لهما، وقد عدها من الإيجاز الرمانى وابن رشيق والعلوى فى الطراز وسماها التقرير(2).
(1) ينظر البيان والتبين 1/96.
(2) ينظر المفتاح ص155 ، 156.
(3) ينظر المطول ص882، والفهَّة: السقطة فى الحديث كما فى مختار الصحاح ص280.
(4) الآية (179) من سورة البقرة.
(5) ينظر الإيضاح 2/104، 105.
(6) من الآية (82) من سورة يوسف.
(7) من الآية (79) من سورة الكهف.
(8) الآية (8) من سورة الأنفال.
(9) من الآية (54) سورة البقرة.
(1) من الآية (73) من سورة البقرة.
(2) من الآية (57) من سورة هود.
(3) أى الحذف الذى لا يقام فيه شئ مقام المحذوف لأنه هو الذى يحتاج إلى ذلك.
(4) من الآية (23) من سورة النساء.
(5) من الآية (22) من سورة الفجر.
(6) ينظر الإيضاح 2/115، 116 باختصار.
(7) ينظر الطراز ص314.
(8) ينظر المفتاح ص156.
(1) ينظر الإيضاح 2/117 – 136.
(2) وملحق به بحث الإجمال والتفصيل لكونه فرعاَ من فروع الإطناب.
(3) الآيتان (25 ، 26) من سورة طه.
(4) ينظر الإيضاح 2/117 باختصار.
(5) الآية (98) من سورة البقرة.
(6) ينظر الإيضاح 2/119، والمطول ص 292
(1) ينظر جواهر البلاغة ص183 ط دار ابن خلدون.
(2) ينظر خزانة الأدب 1/361 ، والبلاغة الغنية للأستاذ/ على الجندى ص 182.
(3) من سورة التكاثر.
(4) الآية (119) من سورة النحل
(5) سورة الرحمن.
(6) ينظر الإيضاح 2/120.
(7) الآية (17) من سورة سبأ.
(8) وهو جزاء الاستئصال لوروده فى أهل سبأ الذيين اسؤصلوا بالعقوبة، فهو جزاء خاص بخلاف ما سيأتى عن صاحب الكشاف.
(9) ينظر الكشاف 3/586.
(10) الآية (81) من سورة الإسراء.
(1) وجه تسميته بالتكميل لتكميله المعنى برفع إبهام خلاف المقصود، وأما تسميته بالاحتراس فلأن حرس الشئ يعنى حفظه، وهذا النوع فيه حفظ للمعنى ووقاية له من توهم خلاف المقصود ينظر الاحتراس فى ضوء القرآن للدكتور/ قاسم خليفة – بحث بحولية كلية الدراسات الإسلامية.
(2) هو لعمرو بن العبد المعروف بطرفة ينظر الإيضاح 2/125.
(3) من الآية (54) من سورة المائدة.
(4) الإيضاح 2/125.
(5) الآية (57) من سورة النحل.
(6) الآيات (75 – 77) من سورة الواقعة.
(1) ينظر الإيضاح 2/132،133
(2) ينظر العمدة 1/250، والطراز ص259، والايضاح 2/97.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق