الخميس، 9 أبريل 2009

الفصل الثانى : الحوار فى الحديث النبوى
حرص النبى صلى الله عليه وسلم على استخدام أساليب مختلفة فى الحوار؛ وذلك لما للحوار من أثر فى أداء رسالته العظيمة , وكما اعتمد النبى صلى الله عليه وسلم على طرق مختلفة فى الأداء اعتمد كذلك على طرق مختلفة فى الحوار , وقبل أن نقف على أبرز هذه الطرق لابد أولاً من معرفة معنى الحوار .
معنى الحوار: الحوار فى اللغة مصدر حاور , وهو حديث يجرى بين شخصين أو أكثر , ويطلق الحوار على المحادثة والمناقشة بين أشخاص , كما يطلق على الجدال والمجاوبة , ومنه قوله تعالى : ( قال له صاحبه وهو يحاوره... ) (الكهف : 27) ([1] )
والحوار النبوى أسلوب راقٍ من أساليب الدعوة والتعليم لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يستطيع من خلاله أن يكتشف ما عند الصحابة من أفكار ومعلومات بخصوص ما يريد أن يلقيه إليهم من تعليم وتوجيه , كما كان يستطيع من خلال الحوار أن يصحح ما علق فى أذهانهم من أفكار خاطئة عن الموضوع مجال التعليم , كما كان يستطيع من خلال الحوار أن يحل الإشكالات التى تعترض طريق الفهم عند بعض الصحابة , وكان يحثهم من خلال الحوار على إعمال الذهن وكد الفكر للوصول إلى الصواب والحق . ولأجل هذه الأسباب مجتمعة سلك النبى صلى الله عليه وسلم طرقاً مختلفة من الحوار نظر اً لما له من جوانب إيجابية فى الدعوة إلى الله عز وجل حيث يتفاعل الصحابة من خلاله مع الوحى فيسألوا ويستفسروا لأجل معرفة الصواب والعمل به .

طرق الحوار:([2] ) 1- أن يأتى بحملة تبدو غريبة لأول وهلة , وقد تكون معارضة لما تعلمه الصحابة من أحكام هذا الدين الجديد فتستثير أسئلتهم . فعن أبى ذر أن ناساً قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلى , ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم , قال : " أوليس الله قد جعل لكم ما تصدقون به ؟ إن بكل تسبيحة صدقة , وكل تكبيرة صدقة , وكل تحميدة صدقة , وكل تهليلة صدقة , وأمر بمعروف صدقة , ونهى عن منكر صدقة , وفى بضع أحكم صدقة " قالوا : يا رسول الله أيأتى أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : " أرأيتم لـو وضعـها فـى حـرام أكان علـيه وزر ؟ فكـذلك إذا وضـعها فـى الحـلال كـان لـه أجر" ([3] )

ففى قوله صلى الله عليه وسلم : " وفى بضع أحدكم صدقة " غرابة تثير حواراً ؛ ولذلك لم يستطع الصحابة السكوت لأن الذى وقر فى أذهانهم أن الأجر إنما يكون على الواجبات التى يتحمل المسلم فى أدائها شيئاً من المشقة , أما الشهوات التى يـمارس الإنسان فيها غريزته ولنفسه فيها حظ ظاهر فكـيف يكون له فيـها أجر ؟ فبين النبى صلى الله عليه وسلم من خلال هذا الحوار أن كل عمل يعمله الإنسان , ويقصد من ورائه مرضات الله كان له فيه أعظم الأجر , وبهذا تتحول العادات والمباحات والشهوات إلى عبادات .
ويد خل فى هذا الطريق من طرق الحوار قوله صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " فقال رجل : يا رسـول الله أنصره إذا كـان مظلوماً , أرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره ؟ قال : " تحجزه – أو تمنعه – من الظلم فإن ذلك نصره " ([4] ) , وقوله : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار " قلت ([5] ) : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " ([6] ) , وقوله صلى الله عليه وسلم : " كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى " قيل : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : " من أطاعنى دخل الجنة , ومن عصانى فقد أبى " ([7] )
2- ومن هذه الطرق : أن يورد السؤال بشكل مشوق يرغبهم فى أن يعرفوا الجواب . وذلك كأن يذكر لهم أمراً عظيماً , ومقصداً هاما ً , وهدفاً مرجواً يسعى إليه كل مسلم ثم بعد ذلك يورد السؤال : ألا أدلكم عليه ؟ ومن الطبعى أن يكون الجواب من الصحابة : ( بلى ) , ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا : بلى يا رسـول الله . قـال : " إسباغ الوضوء على المكاره , وكثـرة الخطـا إلى المساجد , وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط " ([8] ) , ومنه الحديث السابق فى الأداء وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ..." الحديث .
3- ومن هذه الطرق : أن يوجه صلى الله عليه وسلم سؤالاً إلى الصحابة , ويستمع إلى أجوبتهم ثم يناقشهم فى هذه الأجوبة , ويبين لهم وجـه الصواب ... , وقد يعتـذرون عن الإجابة , ويقولون : الله ورسوله أعلم . فيدلى بالـجواب , ومـن ذلك قولـه صلى الله عليه وسلم : " أتدرون من المفلس ؟ " قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : " إن المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة , ويأتى وقد شتم هذا , وقذف هذا , وأكل مال هذا , وضرب هذا , فيعطى هذا من حسناته , وهذا من حسناته , فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النار " ([9] ) فمن خلال إثارة الحوار تبين للصحابة أن المفلس غير ما كانوا يعهدون , وبهذه الطريقة لن ينسى الصحابة أبداً المعنى الحقيقى للمفلس .
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ما تعدون الصرعة فيكم ؟ " قلنا : الذى لا تصرعه الرجال . قال :" ليس ذلك , لكنه الذى يملك نفسه عند الغضب " ([10] )
4- وهناك حوار نجده حواراً عادياً لم يتعمده النبى صلى الله عليه وسلم , ولكنها الوقائع أملته فوصل إلينا فى شكل حوار ... , وكان النبى يرحب بمثل هذه المحاورات أشد الترحيب لأنها مما كان يحرص عليه كما رأينا . فهذا أبو ذر يتوجه من تلقاء نفسه بسؤال , بل بسلسلة من الأسئلة ويطرحها على الرسول صلى الله عليه وسلم فيتولى صلوات الله وسلامه عليه إجابته على أسئلته , ولنستمع إلى أبى ذر . يقول : قلت : يا رسـول الله . أى الأعمال أفضل ؟ قال : " الإيمان بالله , والجهاد فى سـبيل الله " قلت : أى الرقاب أفضـل ؟ قـال : " أنفـسها عند أهـلها , وأكـثرها ثمـناً " قلت : فإن لم أفعـل . قال : " تعـين صـانعاً أو تصـنـع لأخــرق " قـــلت : يا رســول الله أرأيـت إن ضـعفت عــــن بعـــض العــمل ؟ قـــال :" تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك " ([11] )
وفى بعض الأحيان يطرح الصحابى السؤال , ويذكر أجوبة مختلفة , ويطلب من النبى صلى الله عليه وسلم تحديد الجواب الصحيح الدقيق فيجيبه النبى صلى الله عليه وسلم بتحديد الصواب من الأجوبة التى ذكرها . ومن ذلك ما رواه أبو موسى رضى الله عنه قال : جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : الرجل يقاتل للمغنم , والرجل يقـاتل للذكر , والرجل يقـاتل ليرى مكانه فمن فى سبيل الله ؟ قال : " من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله " ([12] ) ففى هذا الحوار حسم النبى صلى الله عليه وسلم المسألة ," وكنى عن الثالث وهو الذى يقاتل ليرى مكانه بقوله : " من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا " إحماداً عليه , وشكراً لصنيعه , وإلا كان يكفيه فى الجواب أن يقول : " من يقاتل ليرى مكانه " وليس الأول ممن يدخل فى ذلك لأنه طالب للمغنم لا لتكون كلمة الله هى العليا , وليس الثانى كذلك لأنه طلب للشرف والفخر والصيت . أما الثالث فعلى بناء الفعل " ُيرى " للمجهول أى ليرى منزلته من الجنة , اى لتحصل له أو ليرى الناس منزلته فى سبيل الله , ويجوز أن يراد بالرؤية رؤية المؤمنين فى القيامة منزلته عند الله " ([13] ) فيكون الرجل فى الحديث قد سأل عن أحوال المجاهدين بأسرها ومقاتلتهم إما للغنيمة , أو للذكر والصيت والفخر رياءً , أو لإعلاء كلمة الله .
وفى بعض الأحيان يسأل الصحابة سؤالاً فيجيب النبى صلى الله عليه وسلم , فيبين الصحابة أنهم يسألون عن أمر آخر غير الذى أجاب عليه النبى حتى يجيـبهم عن الأمر الذى يسـألون عنه . ومن ذلك ما رواه أبو هريرة قال : قيل : يـا رسـول الله مـن أكـرم النـاس ؟ قــال : " أتقاهم " فقالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : " فيوسف نبى الله بن نبى الله بن خلـيل الله " قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : " فعن معادن العرب تسألونى ؟ خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا " ([14] )
والأمثلة على هذا الـطريق من طرق الحـوار كــثيرة لأن الصـحابة كانوا مــن الحـرص عـلى معرفة أحكام دينهم بمكان كبير .
5- وهناك أحاديث صيغت على شكل قصص قصيرة قصــها رسول الله على المسـلمين للعـظة والعبرة والدعوة , ولا يخلو حديث منها من الحوار الرائع الموحى المعبر , وهذا من الأمور الطبعية ما دامت قد وردت على شكل أقاصيص , فالحوار دعامة القـصة وأسـاس أصـيل فـيها , والأمثلة على ذلك كثيرة , ولكن طولها النسبى يحول دون الاستشهاد بها فى هذه العجالة , وأكتفى بالإشارة إلى بعضها , فمن ذلك : حديث الأعمى والأقرع والأبرص , وحديث القاتل , وحديث الراهب, وحديث الملك والغلام والساحر , وحديث جريج ([15] ) , وغيرها من الأحاديث , والأحاديث السابقة كلها أحاديث صحيحة .
وكما يلاحظ ما فى الحوار من تفاعل بين النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة , وما له من أثر فى تصحيح الأفكار والتصورات الخاطئة عن المعانى التى يريد النبى غرسها فى نفوس الناس , ويلاحظ ما فى الحوار من الإجابة على بعض الأسئلة التى تدور فى خلد بعض الصحابة دون أن يعرفوا الجواب الصحيح والدقيق لهذه الأسئلة , ويلاحظ ما فى الحوار من ترسيخ للمفاهيم الإسلامية القويمة .
وهكذا يكون الحوار النبوى بطرقه المختلفة قد أسهم إسهاماً كبيراً فى مجال الدعوة مع الأداء بطرقه المختلفة أيضاً , ويضاف إليهما ما فى البيان النبوى من الخصائص البلاغية التى سيأتى الحديث عنها فى الباب التالى إن شاء الله , وقد مضى أن ما سبق ذكره بمثابة المقدمات لهذا الباب , وما يأتى بعده بمثابة المتممات .

(1) يراجع المعجم الوسيط , و المحيط فى اللغة لأديب اللخمى وآخرين , والغنى فى اللغة د. عبد الغنى أبى العزم . والحوار فى العصر الحديث عنصر من العناصر الفنية للقصة والرواية والمسرحية
(2) نقلت هذه الطرق من كتاب الحديث النبوى مصطلحه وبلاغته وكتبه ص 84- 90 ولقد أضفت إليها ما يسره الله لى من أغراض أخرى مع ذكر الأمثلة من البيان النبوى .
(1) رواه مسلم . وهو فى رياض الصالحين – باب كثرة طرق الخير – رقم ( 122)
(2) رواه البخارى من حديث أنس . وانظره فى رياض الصالحين – باب تعظيم حرمات المسلمين – ص 125
(3) القائل هو نفيع بن الحارث الثقفى راوى الحديث رضى الله عنه .
(4)متفق عليه . وهو فى رياض الصالحين – باب إخلاص النية – ص 15
(5) رواه البخارى من حديث أبى هريرة . وهو فى رياض الصالحين – باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها – ص 90
(1) رواه مسلم من حديث أبى هريرة . وهو فى رياض الصالحين – باب بيان كثرة طرق الخير – ص 78
(2) رواه مسلم والترمذى من حديث أبى هريرة . وانظره فى رياض الصالحين – باب تحريم الظلم – ص 119
(3) رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب . وهو فى رياض الصالحين – باب المراقبة – ص 47
(1) متفق عليه . وهو فى رياض الصالحين – باب بيان كثرة طرق الخير – ص 202
(2) متفق عليه . المشكاة ح (3814) 7/341
(3) ينظر شرح الطيبى على المشكاة 7/341, 342
(4) متفق عليه . نزهة المتقين 1/84 ومعنى فقهوا : أى علموا أحكام الشرع .
(1) وهذه الأحاديث فى رياض الصالحين ص 20 ,134,49,33

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق