الخميس، 9 أبريل 2009

الفصل الأول : الأداء فى الحديث النبوى

النبى صلى الله عليه وسلم مبين عن الله حيث يقول تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) ( النحل : 44) , وهو صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله أيضاً حيث يقول تعالى : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين ) ( المائدة : 67) , وهو صلى الله عليه وسلم شاهد , ومبشر , ونذير , وداع إلى الله بإذنه , وسراج منير حيث يقول تعالى : ( يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهداً ومبشرأ ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ) ( الأحزاب : 46,45) , ومن كان عمله البيان والبلاغ والإنذار والتبشير والدعوة كما نطق القرآن فلابد من أن يؤهل بما يعينه على أداء هذه المهمة الجسيمة , ولقد أعان الله رسوله , وأيده بالحق , والمنطق , والحجة , فكان رسول الله فى شخصه فى قمة البيان والفصاحة , وكان فى منهجه الدعوى فى أعلى درجات الأداء والبيان عن الله عز وجل

ففــيما يتعلق بمنــطقه وتمام آلة البــيان عنده صــلى الله عليه وسلم :
فلقـد كـان ضــليع الـفم ([1] ) يستعمل فمه كله إذا تكلم , ولا يقتصر على تحريك الشفتين فحسب وكان يفـتتح الكلام ويختمه بأشـداقه ([2] ) , وكان رسول الله أفلج الثنيتين إذا تكلم رئى كالنور يخرج من بين ثناياه ([3] ) , وكان فى كلامه صلى الله عليه وسلم ترتيل وترسيل ( [4] ) وكان طويل السكوت ([5] ) لا يتكلم فى غير حاجة , وإذا تكلم لم يسرد سرداً كما قالت أم الــمؤمنين عائــشة رضــى الله عنــها : لم يكن يسرد كسـردكم كان يحدث بـحديث لو عدّه العاد لأحـصاه ([6] ) . هذا فيما يتعلق بشخصه , وتمام آلة البيان عنده صلى الله عليه وسلم . أما فيما يتعلق بأدائه للحديث فلقد استخدم النبى صلى الله عليه وسلم طرقاً مختلفة لأداء الـحديث . منها : ما يتصل بالإشارة المفهمة والموضحة , ومنها التكرار لأجل تثبيت المعنى فى نفس الـسامع , ومنها التصوير التعليمى الواقعى ([7] ) وسأركز هنا على هذه الطرق لأنها أبرز طرق الأداء فى الحديث النبوى , وتدور فى كثير من المواضع .

أولاً : الإشارة المفهمة الموضحة :
كان صلى الله عليه وسلم يعتمد على الإشارة المفهمة الموضحة فى بعض المواقف لتأكيد أمر ما , و لتثبيت فهمه فى أذهان الصحابة . وهذه الإشارة لها مدخل كبير فى التعبير لأنها تستلفت النظر , وتنبه الغافل , وتعين على التذكر والحفظ , ولقد ذكر الجاحظ " أن من أصناف الدلالات على المعانى ([8] ) اللفظ , والإشارة ... , والإشارة تكون باليد , وبالرأس وبالعين , والحاجب , والمنكب ... , والإشارة واللفظ شريكان , ونعم العون هى له , ونعم الترجمان هى عنه , وما أكثر ما تنوب عن اللفظ , وما تغنى عن الخط . وبعد فهل تعدو الإشارة أن تكون ذات صورة معروفة , وحلية موصوفة على اختلافها فى طبـقاتها ودلالاتها , وفى الإشارة بالطرف , والحاجب , وغير ذلك من الجوارح مرفق كبير , ومعونة حاضرة فى أمور يسترها بعض الناس من بعض , ويخفونها من الجليس وغير الجليس . ولولا الإشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص , ولجهلوا هذا البتة ... هذا ومبلغ الإشارة أبعد من مبلغ الصوت ([9] )
وكما يلاحظ من كلام الجاحظ أهمية الإشارة فى توضيح المعانى وما لها من أثر فى البيان .
ولقد استخدم النبى صلى الله عليه وسلم أشكالاً مختلفة من الإشارة فى أداء الحديث : فإذا أراد أن يبين شدة الأمر ظهر ذلك على ملامحه وفى صوته , وإذا أراد بيان الملازمة جمع بين أصبعيه السبابة والوسطى . ومن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال : كان رسول الله إذا خطب احمرت عيناه , وعلا صوته , واشـتد غضبه حتى كأنه مـنذر جيش يقول : " صبحكم ومساكم " , ويقول : " بعثت أنا والساعة كهاتين , ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى " ([10] ) فهنا أداء الرسول للحديث تضمن الإشارة بأصبعيه , وتغيير ملامح وجهه . وعن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين " وضم أصابعه ( [11] ) وهنا إشارة النبى مهمة لأهمية الموضوع , وهو ما كان عليه العرب من كراهية البنات , فبين أن من قام عليها بالمؤونة والتربية كان إلى جانبه فى الجنة .

والإشارة تختلف تبعاً لنوع الموضوع وأهميته , وموضع المشار إليه , ففى الحديثين السابقين أراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يبين مدى قرب كافل اليتيم وعائل البنات منه فى الجنة . وفى مواضع أخرى نراه يشير إلى الصدر عند الحديث عن التقوى كما فى قوله صلى الله عليه وسلم : " التقوى ها هنا " وأشار إلى صدره ([12] ) , وإذا أراد وصف رضاع الطفل وضع سبابته فى فيه كما فى الحديث الطويل الذى رواه البخارى ومسلم : " ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع " يقول راوى الحديث : فكأنى أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وهو يحكى ارتضاعه بأصبعه السبابة فى فيه يمصها ([13] ) وإذا أراد أن يؤكد أهمية الموضوع غير جلسته كما فى حديث شهادة الزور " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : " الإشراك بالله , وعقوق الوالدين " وكان متكئاً فجلس , فقال : " ألا وقول الزور " فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت (5)
وكان صلى الله عليه وسلم يتأثر بكلامه فيبتسم إذا كان فى حديثه ما يسـتدعى الابـتسام ,

ويبكى إذا كان فى حديثه ما يستحق ذلك , ويدل على ذلك أحاديث كثيرة مشهورة .
ثانياً : التكرار([14] ) : النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا تكـلم بكلـمة أعادها ثلاثاً حـتى تفهم عنه , وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً ([15] )
والتكرار من مقاتل البيان , وهو دقيق المأخذ , وحده : " دلالة اللفظ على المعنى مردداً , ومنه ما يوجد فى اللفظ والمعنى , ومنه ما يوجد فى المعنى دون اللفظ . فالأول : كقولك : أسرع أسرع , والثانى : كقولك : أطعنى ولا تعصنى , فإن الأمر بالطـاعة نهى عـن الـعصية . والتكرار فى اللفظ والمعنى أو المعنى فقط منه ما هو مفيد , ومنه غير المفيد . فالمفيد من التكرار ما يأتى فى الكلام تاكيداً له , وتشييداً من أمره ؛ وإنما يفعل ذلك للدلالة على العناية بالشئ , ولذا كررت فيه كلامك إما مبالغة فى مدحه , أو ذمه , أو غيرذلك , ولا يأتى إلا فى أحد طرفى الشئ المقصود بالذكر , والوسط عار منه , والوسط ليس من شرط المبالغة " ([16] )
" والتكرير أبلغ من التأكيد , وله فوائد منها : التقرير وقد قيل : الكـلام إذا تكرر تقـرر . ومـنها : زيادة التنبيه على ما ينفى التهمة ليكتمل تلقى الكلام بالقبول , وهو مع التأكيد يجامعه ويفارقه , ويزيد عليه وينقص عنه , فإن التأكيد قد يكون تكراراً وقد لا يكون , وقد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيداً للتأكيد معنى ... ولابد للمتكلم أن يلاحظ التحرز عن انفكاك النظم أو الترتيب , وتشويشه أولاً ثم فى المعنى " ([17] )

وقد أوجزت هنا بعض الضوابط التى ذكرها البلاغيون للتكرار ليتضح لنا من خلالها أن التكرار ليس مجرد ترديد للألفاظ بدون فائدة أو غاية , بل إن التكرار ينطوى على أسرار بلاغية تختلف تبعاً للسياق والمقام ... , وإلى البيان النبوى لنرى كيف اعتمد النبى صلى الله عليه وسلم على التكرار فى بعض المواقف كطريق من طرق الأداء ليؤكد أهمية أمر من الأمور فى الدين , أو ليحذر من عاقبة من العواقب , أو ليبين جواز أمر من الأمور فى الدين أو ليحذر من ســلوك معين يتعارض مـــع الدين ويجب أن ينـــأى عنــه المسـلم , أو ليحـض على عمل من الأعمال يحبه الله ,أو غير ذلك . ومن ذلك قـوله صلى الله علـيه وسلم : " والله لا يؤمن, والله لا يؤمن, والله لا يؤمن " قيل : من يا رسول الله ؟ قال : " الذى لا يأمن جاره بوائقه " ([18] ) وهنا كرر النبى صلى الله عليه وسلم هذه العبارة ليحذر أشد التحذير من إيذاء الجار , وذلك مع تصدير كل جملة من جمل الحديث بالقسم باسم الله الذى يقتضى التأكيد , فاجتمع هنا التكرار مع التأكيد ليبين أن إيذاء الجار مما يؤثر فى إيمان المسلم , ولا شك أن إيذاء الجار من المعاصى التى تعم بها البلوى فى كل مكان وزمان ؛ وهذا ما تطلب التأكيد من النبى صلى الله عليه وسلم فى أداء هذا الحديث لينبه إلى خطورة هذا الأمر .

وفى بر الوالدين يقول صلى الله عليه وسلم : " رغم أنف , ثم رغم أنف , ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أوكليهما فلم يدخل الجنة " ([19] ) وهنا يكرر النبى صلى الله عليه وسلم قوله : " رغم أنف " ثلاث مرات , وهو دعاء بالذل والفقر : أى لصق بالرغام وهو التراب إشارة إلى شدة خسار من أدرك والديه أو أحدهما فلم يظفر ببرهما وصلتهما , وهذا أمر يتطلب التكرار لينبه المسلمين إلى اغتنام وجود الوالدين فى الحياة بالبر والإحسان إليهما لأن رضاهما من رضا الله , فينبغى للمسلم أن لا يضيع هذه الفرصة الثمينة من يده , ومن ضيعها فقد ضيع خيراً كثيراً , وخسر خسراناً مبيناً. " والبر عند كبرهما وضعفهما يكون بالخدمة أو النفقة أو غير ذلك مما هو سبب لدخول الجنة , فمن قصر فى ذلك فاته دخول الجنة وأرغم الله أنفه " ([20] )
وفى مقام التحذير من خطورة قول الزور وبيان أنه من الكبائر يقول صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " - ثلاثاً - قلنا : بلى يا رسول الله . قال : " الإشراك بالله , وعقوق الوالدين " , وكان متكئاً فجلس فقال : " ألا وقول الزور وشهادة الزور " فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت " ([21] ) ويلاحظ أن النبى صلى الله عليه وسلم قد كرر كلامه فيما يتعلق بقول الزور أكثر من ثلاث مرات كما فى هذه الرواية " فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت " والتكرار هنا كطريق من طرق الأداء يرمى النبى من ورائه إلى بيان تحريم قول الزور " وهو فى أصله : تحسين الشئ ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به , فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق " ([22] ) وما أخطر شهادة الزور على المجتمع ! فبها تضيع الحقوق , ويظلم الناس ,وتنتشر العداوة والبغضاء , ويظهر الفساد , وتضيع الأمانات ... ولأجل ذلك كله اعتمد النبى على طريقين من طرق الأداء . الأول : تغيير الجلسة لأنه كان متكئاً فجلس . الثانى : التكرار. وهذان فيهما من التأكيد ما فيهما .
وفيما يتعلق بالصلاة بين الأذان والإقامة , هى ما يتركها كثيرمن الناس , وأراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يبين استحبابها , فكرر هنا بقوله : " بين كل أذانين صلاة , بين كل أذانين صلاة " ثم قال فى الثالثة : " لمن شاء " ([23] ) وفى رواية لمسلم أنه قال فى الرابعة : " لمن شاء " ([24] )
ويلاحظ أن النبى صلى اله عليه وسلم كان يكرر فى بعض الأحاديث ثلاث مرات ,وفى بعض المواقف يزيد على الثلاث كما فى الحديث السابق ويبدو أن ذلك يرجع إلى أهمية الموضوع ودرجته من الدين , فالأداء والتكرار إنما يتبع خطر الموضوع وأهميته من الدين , وهنا أراد أن يؤكد استحباب الركعتين قبل صلاة المغرب , فهاتان الركعتان سنة مستحبة . أما فى حديث قول الزور فقد أطلق التكرار ولم يقيده بالثلاث لخطر قول الزور على الفرد والمجتمع ؛ ولذلك ضم إليه طريقاً أخرى من طرق الأداء , وهى تغيير الجلسة . وفى موضوع إعداد العدة للقتال فى سبيل القـوة يقول رسول الله : " ألا إن القـــوة الرمـى , ألا إن القوة الرمى , ألا إن القوة الرمى" ([25] ) فالحديث هنا يتحدث عن فضيلة الرمى والمناضلة , وأراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يحض على العناية بالرمى لما له من أثر فى الجهاد فى سبيل الله , فكرر هذه العبارة لتأكيد هذه المكانة .
وبعد هذه الإشارة السريعة إلى بعض أحاديث التكرار كطريق من طرق الأداء فى الحديث أنتقل إلى الحديث عن الطريق الثالثة من طرق أدائه صلى الله عليه وسلم للحديث .
ثالثاً : التصوير التعليمى :
وهذه الطريقة من طرق الأداء لها أكبر الأثر فى التعليم والتنبيه والتوجيه لما يترتب عليها من تصوير المعانى العقلية فى صورة حسية , وتوضيح الأمور بأمثلة من البيئة والواقع , وذلك مما يرسخ المعنى فى الذهن , ويجعله مرتبط بمثاله المضروب له من الواقع , وهذا مما يسر نقل الحديث إلى الآخرين نظراً للارتباط بين المعنى والصورة الواقعية فى الخيال والذهن , وهذا ما يسر أيضاً نقل كثير من الأمثال العربية التى كانت فى موردها حوادث معينة سيق فيها المثل بعبارة موجزة .والتصوير النبوى منه ما اعتـمد على صـورة مـشاهدة , ومنه ما كان عن طريق الخط والرسم , ومنه ما كان من خلال الربط الذهنى بين المعنى المقصود وصورة من الواقع .
أما عن التصوير المعتمد على مشهد من الواقع : فمن ذلك ما رواه عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : قدم على النبى صلى الله عليه وسلم سبى , فإذا امرأة من السبى قد تحلّب ثديها تسعى إذا وجدت صبياً فى السبى أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته . فقال لنا النبى صلى الله عليه وسلم : " أترون هذه طارحة ولدها فى النار ؟ " فقلنا : لا وهى تقدر على أن لا تطرحه فقال : " لله أرحم بعباده من هذه بولدها " ([26] )
وهنا نلمح اغتنام النبى صلى الله عليه وسلم لهذه الفرصة وهذا المشهد ليبين من خلاله رحمة الله بعباده , وهنا ربط بين الصورة المشاهدة والمعنى المقصود , وهذا مما يرسخ المقصود فى الذهن من خلال الصورة المشاهدة . فالمرء حين ينظر إلى الأم , وما جبلت عليه من الرحمة والعطف , وخاصة حين ترضع طفلها , وتضمه إلى صدرها , ويتأ مل فى قوله صلى الله عليه وسلم : " لله أرحم بالعباد من الوالدة بولدها " لاتـضح له مبلغ رحمة الله بعباده , فهو سبحانه الذى غرس فى قـلب الأم وجوانحها عاطفة الأمومة بما فيـها من حنان وعطف ورحمة وشفقة , بل هو الذى اختار للإنسان أمه وأباه , فكيف تكون رحمته عز وجل , إنها فوق ما يتصور المتصورون !!
وفى موقف آخر أراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يبين من خلاله هوان الدنيا على الله . فعن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفيه فمر بجدى أسك ( صغير الأذن ) ميت , فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال : " أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم ؟ " فقالوا : ما نحب أنه لنا بشئ , وما نصنع به ؟ ثم قال : " أتحبون أنه لكم " قالوا : والله لوكان حياً كان عيباً أنه أسك , فكيف وهو ميت , فقال : " فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم " ([27] )
المشهد التعليمى والتصويرى هنا الهدف منه بيان حقارة الدنيا من خلال النظر إلى صورة هذا الجدى الأسك الميت , وكلنا يعلم أن الميت من هذه الأنعام ينأى عنه الإنسان لنتن ريحه وعدم نفعه , فكيف إذا اجتمع نقص خلقته مع موته ! فكذلك المسلم يجب أن ينأى عن الدنيا وزخرفها وزينتها فلا تفتنه وتصرفه عن طريق الهدى لهوانها على الله فى جانب الآخرة , ونقص نعيمها إلى جانب نعيم الآخرة. ولقد اغتنم النبى صلى الله عليه وسلم رؤية هذا الذكر الميت من أولاد المعز ليؤدى إلى الصحابة هذا المعنى , ودائماً ما ترتبط المشاهد التصويرية بمعانٍ مهمة يهدف البيان النبوى إلى توضيحها وترسيخها فى النفوس من خلال ربطها بالصورة المشاهدة فلا يتطرق إليها النسيان .
أما عن التصوير المعتمد على الخط والرسم لأجل التعليم والتوضيح فمنه ما رواه ابن مسعود قال : خط النبى صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً ,وخط فى الوسط خطاً خارجاً منه , وخط خطـطاً صغاراً إلى هذا الذى فى الوسط فقال : " هذا الإنسان , وهذا أجله محيط به – أو قد أحاط به – وهذا الذى هو خارج أمله , وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا , وإن أخطأه هذا نهشه هذا " ([28] ) وهذه صورة الخط الذى خطه النبى صلى الله عليه وسلم
أراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يبين من خلال هذا الرسم والشكل ([29] ) مدى أمل الإنسان وحرصه على الدنيا , وأن آماله تتجاوز عمره وحياته , وأن أعراض الدنيا وما فيها محيطة به إن أخطأه وجاوزه عرض من الأعراض أصابه عرض آخر من أعراض الدنيا وشرها . وما أروع التعبير عن الإصابة هنا بالنهش أو النهس : وهو لدغ ذوات السم . إشارة إلى شدة الإضرار . فبينما الإنسان طالب لأمله البعيد تدركه الآفات التى هى أقرب إليه فتؤدى به إلى الأجل المحيط به .
والنبى صلى الله عليه وسلم اعتمد على الخط هنا , وهو الرسم والشكل ([30] ) فى أداء الحديث لبيان قصر عمر الإنسان وطول أمله , وما يكتنفه من البلايا والمحن فى الدنيا , وأن على المرء أن يزهد فى الدنيا لأن الأجل لن يمهله ليحقق هذه الآمال العريضة , وأن ما يصيبه من المحن والشرور فى الدنيا والتى عبر عنها باللدغ تحول بينه وبين مراده ([31] )
أما عن التصوير المعتمد على الربط الذهنى بين المعنى المقصود وصورة من الواقع : فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه : " قل : اللهم اهدنى وسددنى , واذكر بالهدى هدايتك الطريق , وبالسداد سداد السهم "([32] ) فالهـدى : هــو الرشـاد . والسداد فى أصله :هو الاستقامة فى الأمور , وأراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يربط فى الدعاء بين هداية الطريق مع الهدى , وسداد السهم : أى تقويمه مع الـسداد . والمعنى : اجعلنى منتصباً فى جميع أمورى مستقيماً , " ومعنى قوله : " اذكر بالهدى هدايتك الطريق وسداد السهم " أى تذكر ذلك حال دعائك بهذين اللفظين لأن هادى الطريق لا يزيغ عنه , ومسدد السهم يحرص على تقويمه ولا يستقيم رميه حتى يقومه , وكذلك الداعى ينبغى أن يحرص على تسـديد علـمه وتقويـمه , ولزوم الـسنة . وقيل ليتذكر بهذا لفـظ السداد والهـدى لـئلا ينـساه " (1)
وهنا جاء أداء الحديث من خلال الربط الذهنى بين المعنى وصورة من الواقع , فليتأمل البصير بأسرار البيان فى قدرة النبى صلى الله عليه وسلم على أداء المعنى بطرق مختلفة من إشارة , وخط , وتكرار , وتصوير مع الحرص على اختيار الألفاظ بدقة وعناية , وصوغها فى تراكيب بلاغية دقيقة . فالصلاة والسلام على من أوتى جوامع الكلم وروائع الحكم ([33] )
(1) رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة 7/84
(2) ينظر وصفه صلى الله عليه وسلم فى حديث هند بن أبى هالة , وإسناده ضعيف .
(3) أخرجه الترمذى فى الشمائل من حديث ابن عباس , وأخرجه الدارمى فى سننه , وقال الطبرانى لا يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد , تفرد به إبراهيم الحازمى , وفى إسناده عبد العزيز بن أبى ثابت بن عمران , وهو مـتروك الـحديث . ينظر المشكاة ح (5797) 11/24 . والأفلج : من الفلج بالتحريك وهو فرجة ما بين الثنـايا والرباعيات , و الفرق : فرجة بين الثنيتين .
(4) أخرجه أبو داود من حديث جابر , وفى إسناده مجهول . ينظر المشكاة ح( 5827) 11/83 . ترتـيل الـقراءة : التأنى والتمهل وتبيين الحروف والحركات تشبيهاً بالشعر المرتل , وهو المشبه بنور الأقــحوان , يقــال : رتل القراءة وترتل فيها . والترسيل : الترتيل , يقال : ترسل الرجل فى كلامه ومشيه إذا لم يعجل , وهو والترتيل سواء . ينظر حاشية الطيبى على المشكاة 11/38
(5) أخرجه أحمد من حديث جابر بن سمرة , وهو فى صـحيح الجـامع الصغير ح (4822) , وفـى المشـكاة ح ( 5826) 11/ 38
(1) متفق عليه . المشكاة ح ( 5815) 11/33 . والسرد : هو التتابع والتوالى فى الكلام , يقال : فلان سرد الحديث سرداً إذا تابع الحديث بحديث استعجالاً , وسرد الصوم : تواليه : يعنى لم يكن حديث النبى متتابعاً بحيث يأتى بعضه إثر بعض فيلتبس على المستمع , بل كان يفصل بين كلامين بحيث لو أراد المستمع عده أمكنه , فيتكلم بكلام واضح مفهوم فى غاية الوضوح والبيان . يراجع شرح الطيبى على المشكاة 11/33
(2) أما عن التصوير البيانى فسيأتى الحديث عنه فى الباب التالى , وهو الخصائص البلاغية لأسلوب الحديث النبوى .
(3) وهى خمسة أشياء : اللفظ , والإشارة , والعقد (ضرب من الحساب يكون بأصابع اليدين ) وقد ورد فى الحديث أنه صلى الله عليه عقد عقد تسعين , والخط , والنّصبة (وهى الحالة الدالة التى تقوم مقام تلك الأصناف).
(4) ينظر البيان والتبيين1/76- 79
(1) رواه مسلم – كتاب الجمعة – باب تخفيف الصلاة والخطبة . وانظره فى رياض الصلحين 1/157
(2) رواه مسلم – كتاب البر والصلة – باب فضل الإحسان إلى البنات ح ( 2631)
(3) رواه مسلم 8/11
(4) رواه البخارى ومسلم . ويراجع رياض الصالحين – باب ضعفة المسلمين – ص 135
(5) رواه البخارى ومسلم من حديث أبى بكرة نفيع بن الحارث . نزهة المتقين 1/268
(1) التكرار مصدر ثلاثى يفيد المبالغة كالترداد مصدر رد عند سيبويه , أو مصدر أصله ( التكرير) قلب الياء ألفاً عند الكوفيين , ويجوز كسر التاء , وفسر بعضهم التكرار بذكر الشئ مرتين , وبعضهم فسره بذكر الشئ مرة بعد أخرى , فهو فى الأول : مجموع الذكرين . وعلى الثانى : الذكر الأخير . ويراجع تفصيل ذلك فى الكليات لأبى البقاء الكفوى ص 297
(2) رواه البخارى والترمذى , وهو فى رياض الصالحين – باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب .
(3) ينظر المثل السائر ص 355- 358 باختصار .
(4) ينظر الكليات لأبى البقاء ص 268 , 270 ,297
(1) متفق عليه من حديث أبى هريرة . أخرجه البخارى فى كتاب الأدب – باب إثم من لم يأمن جاره بوائقه , وأخرجه مسلم – كتاب الإيمان – باب تحريم إيذاء الجار . نزهة المتقين 1/251
(2)رواه مسلم من حديث أبى هريرة . كتاب البر والصلة – باب رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر . نزهة المتقين 1/257
(3) ومعنى رغم أنف : ذل , وقيل : كره وخزى , وهو بفتح الغين وكسرها وهو الرغم بضم الراء وفتحها وكسرها , وأصله لصق أنفه بالرغام وهو تراب مختلط برمل , وقيل : الرغم : كل ما أصاب الأنف مما يؤذيه . ينظر صحيح مسلم بشرح النووى 16/109
(1) متفق عليه من حديث أبى بكرة نفيع بن الحارث الثقفى . ويراجع تخريجه فى نزهة المتقين 1/289,268
(2)يراجع صحيح مسلم بشرح النووى 2/84
(3) متفق عليه من حديث عبد الله بن مغفل . المشكاة ح (661) 2/244
(4) يراجع صحيح مسلم بشرح النووى 6/124
(1) رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر – باب فضل الرمى والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه – 13/64 , والحديث جاء فى تفسير قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ... ) ( الأنفال : 60)
(2) متفق عليه. المشكاة ح (2370) 5/137
(1) رواه مسلم فى أول كتاب الزهد والرقائق . نزهة المتقين 1/351
(1) رواه البخارى – كتاب الرقاق – باب فى الأمل وطوله – نزهة المتقين 1/422
(2) استخدم النبى صلى الله عليه وسلم الرسم التوضيحى لإيصال هذا المعنى , وهو من الوسائل التعليمية المهمة , ومن المسلمات لدى التربويين أنه كلما زاد عدد الحواس التى تشترك فى الموقف التعليمى زادت فرص الإدراك والفهم كما أن المتعلم يحتفظ بأثر التعليم فترة أطول .
(3) ينظر شرح الطيبى على المشكاة 9/391
(4) ومن المشاهد التصويرية المعتمدة على صورة من الواقع ما رواه جرير بن عبد الله قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر . وقال : " إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون فى رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صـلاة قبل طـلوع الشـمس وقبـل غروبها فافـعلوا " ثـم قـرأ: (... وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) ( ق : 39) أخرجه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى . ينظر جامع الأصول 11/168
(5) أخرجه مسلم – باب فى الأدعية – 17/ 43
(1) ينظر صحيح مسلم بشرح النووى 17/43
(1) سيأتى إن شاء الله تعالى مزيد بيان للناحية التصويرية فى الحديث النبوى , وذلك فى الفصل الرابع من الباب الرابع وهو الفصل الخاص بالتصوير وضرب الأمثال فى البيان النبوى , وسنلاحظ هناك مدى عناية النبى صلى الله عليه وسلم بضرب الأمثال , وصياغة التشبيهات , والاستعارات , والكنايات, واتباعه فى ذلك لمنهج القرآن الكريم , ولقد جمع الشريف الرضى كثيراً من الأحاديث النبوية المشتملة على الاستعارات والمجازات فى كتابه المجازات النبوية , وتناولها بالتحليل البلاغى الذى يكشف عما فيها من أسرار الجمال, كما ذكر ناصح الدين بن الحنبلى كثيراً من أحاديث التمثيل النبوى فى كتابه أقيسة النبى المصطفى صلى الله عليه وسلم , وأشار الحسين بن خلاد الرامهرمزى إلى بعض الأمثال النبوية فى كتابه أمثال الحديث , كما أشار الثعالبى إلى بعض أحاديث التشبيه والتمثيل فى كتابه الإعجاز والإيجاز , ولكن العلماء حقيقة لم يعطوا التمثيل والتصوير النبوى ما يستحقه من العناية , وكان عليهم أن يجردوا أقلامهم للكشف عن أسرار التصوير والتمثيل فى البيان النبوى بما يتناسب مع منزلة هذا البيان فى الدين وفى دنيا الناس , وأن يبينوا أثر التمثيل القرآنى فى التمثيل النبوى . ولقد قام بعض الباحثين المحدثين بجهد مشكور فى هذا الميدان إلا انه ما زال بحاجة إلى جهود أخرى صادقة , ونسأل الله أن يوفق بعض العلماء المخلصين إلى جمع أحاديث الأمثال والتصوير والمجاز فى البيان النبوى وتناولها بالدراسة والتحليل من الناحية الموضوعية والبلاغية والتربوية وغير ذلك مع ربطها بالواقع , وهو عمل جليل يحتاج إلى جهد كبير .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق