الأربعاء، 8 أبريل 2009

الفصل الأول : أسباب بلاغته صلى الله عليه وسلم:
النبى صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين نشأ فى أمة صـناعتها البيان , والفـصاحة أكـبر أمــرهم , والكلام سيد عملهم , ولقد حمل أعباء الرسالة العظيمة لينذر الناس جميعاً , ومن هنا فلابد من الإعداد المناسب لأداء هذه الأمانة , ولابد من توفير الأسباب , وتهيئه الظروف التى تساعد على أداء هذه المهمة العظيمة الجسيمة , وهى هداية الناس , وإخراجهم من الظلمات إلى النور , ولأجل ذلك كانت هناك عوامل وأسباب أثرت فى بلاغته صلى الله عليه وسلم , وسأكتفى هنا بالإشارة إلى أبرزها مراعياً الترتيب بين هذه العوامل فى حياته صلى الله عليه وسلم .
أولاً : النشأة والبيئة :
وهذه الناحية لها أثر كبير فى بلاغته صلى الله عليه وسلم , فاكتساب المنطق واللغة يرجع للطبيعة والمخالطة والمحاكاة , والنبى صلى الله عليه وسلم نشأ وتقلب فى أفصح القبائل وأخلصها منطقاً , وأعذبها بياناً , فكان مولده فى بنى هاشم , وأخواله فى بنى زهرة , ورضاعه فى بنى سعد , ومنشؤه فى قريش , ومتزوجه فى بنى أسد, ومهاجرته إلى بنى عمرو وهم الأوس والخزرج من الأنصار , لم يخرج عن هؤلاء فى النشأة واللغة , ولقد كان فى قريش وبنى سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة , ولقد جاء فى الحديث : " أنا أفصح العرب بيد أنى من قريش , ونشأت فى بنى سعد بن بكر " ( [1] ) , وبنو سعد بن بكر كانوا من العرب الضاربة حول مكة , وكان أطفال القرشيين يتبدون فيهم وفى غيرهم يطلبون بذلك نشأة الفصاحة ([2] ) , والرواة جميعاً على أن بنى سعد بن بكر خصوا من بين القبائل بالفصاحة والبيان .
وهذا الجانـب مـن حياته صـلى الله عليه وسـلم لم يطـعن فيه مــشرك مـن المـشركين لأنـهم يعلمون نشأته وفصاحته , لأنه لم يخرج من بين أظهرهم , ولا جلا عن أرضهم , ففصاحته
معلومة للخاص والعام منهم , وولادته ونشأته مما لا يخفى على أحد ؛ ولهذا لم يجد أعداء الإسلام مغمزاً يطعنون به فى بلاغته وفصاحته لأنهم كانوا يعلمـون أنه على حد الكفاية فيهما . ولكن هل النشأة وحدها كافية فى أن يصل المرء إلى أعلى درجات الفصاحة , ويتربع على قمة البيان البشرى ؟ بالطبع لا ؛ لأن هذا الجانب يشاركه فيه صلى الله عليه وسلم كثير من الفصحاء والبلغاء أمثال : قس بن ساعدة , وأمية بن الصلت , ولبـيد بن ربيعة , وغيرهم من الفصحاء والشعراء , ولكن لم يصل أحدهم إلى هذا المستوى من الفصاحة والبلاغة , ولذلك فلابد من وجود أسباب أخرى لبلاغته صلى الله عليه وسلم غير النشأة واللغة , لابد من وجود سبب آخر لهذه البلاغة ساهم فى إعلاء شأنها , ورفع ذكرها إلى هذا المستوى من البيان , وهو السبب التالى .

ثانياً : الفطرة النقية والإعداد الربانى والاصطفاء:
ويبدو لى أن الفطرة النقية , والإعداد الربانى , والاصطفاء مما ساهم فى بلاغته صلى الله عليه وسلم , وسأجمع بين هذه الأسباب فى الكلام ؛ لأن الربط بين هذه الأمور من الأهمية بمكان فى بيانه صلى الله عليه وسلم , وسأفصـل فى هـذه الناحية بعض التفصيل لهذا السـبب ؛ ولأن لهذه الناحية مدخلاً فى رسالته صلى الله عليه وسلم , وسأتناول هذه الناحية حسب الترتيب التاريخى فى حياته صلى الله عليه وسلم مع الإيجاز , فلقد أشار النبى إلى هذا الاصطفاء فقال :
" إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل , واصطفى قريشاً من كنانة , واصطفى من قريش بنى هاشم , واصطفانى من بنى هاشم " ( [3] )

ولنبدأ فى بنى سعد حين أخذت الحبيب صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية , ورأت فى حياتها وفى قومها من البركة والخير والسعة ما لم تر من قبل , وهنا وقع حادث شق صدره صلى الله عليه وسلم .
فلقد روى مسلم فى صحيحه عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان , فأخذه فصرعه فشق عن قلبه , فاستخرج القلب , واستخرج منه علقة سوداء , فقال : هذا حظ الشيطان منك , ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم, ثم لأمه , ثم أعاده إلى مكانه , وجاء الغلمان يسـعون إلى أمه – أى ظئره – فقالوا : إن محمداً قد قتل , فاستقبلوه وهو منتقع اللون . قال أنس : وقد كنت أرى أثر المخيط ( الإبرة ) فى صدره ([4] ) وهذه الحادثة لشق الصدر ([5] ) يكملها ما روته حليمة السعدية حيث قالت : " فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مع أخيه لفى بهم ([6] ) لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخـوه يشـتد ([7] ) فقال لى ولأبيـه : ذاك أخى القرشى قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضـجعاه , فشـقا بطنه فهما يسـوطانه ([8] ) قالت : فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائماً منتقعاً ([9] ) وجهه قالت : فالتزمته والتزمه أبوه , فقلنا له : مالك يا بنى , قال : جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعانى وشقا بطنى فالتمسا فيه شيئاً لا أدرى ما هو . قالت : فرجعنا به إلى خبائنا " ([10] )
" ولقد وقع حادث شق الصدر هذا فى السنة الرابعة أو الخامسة من مولده صلى الله عليه وسلم " ([11] ) وهذا الحديث وأمثاله مما يجب فيه التسليم , ولا يتعرض له بتأويل من طريق المجاز والاتساع ؛ إذ لا ضرورة فى ذلك ؛ إذ هو خبر صادق مصدوق عن قدرة القادر . ويجدر بى هنا أن أنقل ما ذكره الطيبى حول قول جبريل : " هذا حظ الشيطان منك " لأنه متصل بما نحن بصدده تمام الاتصال . يقول : " قيل : إن النـبى صـلى الله عليه وسـلم لـما
كان بشراً متعلقاً عما انعلق عنه سائر البشر , ولا ينكر ذلك لقوله تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى ... ) ( الكهف : 110) والعلقة فى الإنسان أصل المفاسد ؛ ولهذا قال جبريل بعدما أخرجها : " هذا حظ الشيطان منك " فعصمه من آفته وطمعه , كما أسلم له شيطانه على يده , قدر الله فى سابقة لطفه أن يخرج حظ الشيطان منه , فجعله قدسياً طاهر الأصل والعنصر , منور القلب , مقدس الجسم , مستعداً لقبول الوحى السماوى , والفيض الإلهى لا يتطرق إليه هواجس النفس " ([12] ) وإذا خطونا خطوة أخرى نحو مكة نجد أن عبد المطلب جد النبى صلى الله عليه وسلم كان يشعر بتميز النبى من سائر الناس , فلقد روى ابن هشام " أنه كان يوضع لعبد المطلب فراش فى ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً له , فكان رسول الله يأتى وهو غلام جفر ([13] ) فيجلس عليه , فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه , فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابنى هذا فوالله إن له لشأناً , ثم يجلس معه على فراشه , ويمسح ظهره , ويسره ما يراه يصنع " ([14] ) وهذا التميز , والاصطفاء , والفطرة النقية قد لاحظها أبوطالب أيضاً , فلقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة وهم فى قحط , فقالت قريش : يا أبا طالب أقحط الوادى , وأجدب العيال , فهلم فاستسق , فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن ( [15] ) تجلت عنه سحابة قثماء ([16] ) حوله أغيلمة , فأخذه أبوطالب فألصق ظهره بالكعبة ... فأقبل السحاب من ههنا وههنا وأغدق واغدودق وانفجر الوادى وأخضب النادى والبادى , وإلى هذا أشار أبوطالب حين قال :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ومما يتصل بالإعداد الربانى ما رواه ابن الأثير أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ما هممت بشئ مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين كل ذلك يحول الله بينى وبينه ثم ما هممت
به حتى أكرمنى الله برسالته . قلت ليلة للغلام الذى يرعى معى الغنم بأعلى مكة : لو أبصرت لى غنمى حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب , فقال : أفعل , فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار مكة سـمعت عزفاً فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : عرس فـلان بفـلانة فجلست أسمع , فضرب الله على أذنى فنمت , فما أيقظنى إلا حر الشمس , فعدت إلى صاحبى فسألنى فأخبرته ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك , ودخلت بمكة, فأصابنى مثل أول ليلة , ثم ما هممت بسؤ " ([17] )
وإذا خطونا خطوة أخرى فى مرحلة شبابه صلى الله عليه وسلم لنرى مظاهر الفطرة النقية و العناية الربانية فنصل إلى بناء الكعبة , فلقد روى البخارى فى صحيحه من حديث جابر ابن عبد الله رضى الله عنهما قال : " لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة , فقال عباس للنبى صلى الله عليه وسلم : اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة , فخر إلى الأرض , وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق فقال : " إزارى , فشد عليه إزاره " , وفى رواية " فما رؤيت له عورة بعد ذلك " ([18] )

إن هنا خصوصية للنبى صلى الله عليه وسلم , ومظهر من مظاهر العناية الربانية لأنه قد جاء فى بعض الروايات أنه نودى" استر عورتك " ([19] ) " ولقد كان سن الرسول وقتها خمساً وثلاثين سنة " ([20] ) ولنصل إلى صواب الرأى النابع من الفطرة النقية والعناية الإلهية فبعد أن جددت قريش بناء الكعبة , وبلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه فى مكانه , واستمر النزاع أربعة ليالٍ أو خمساً , واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس فى أرض الحرم إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكّموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد , وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين رضيناه هذا محمد , وهنا نلاحظ أن النبى صلى الله عليه وسلم كان معروفاً ومشهوراً بالأمانة والصدق بينهم قـبل أن ينزل عليه
الوحى كما صح فى الأحاديث ([21] ) , ولما انتهى إليهم و أخبروه الخبر طلب رداءً فوضع الحجر وسطه , وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعاً بأطراف الرداء , وأمرهم أن يرفعوه حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه فى مكانه , وهذا حل حصيف رضى به القوم ([22] ) ولنخط خطوة أخرى قبيل نزول الوحى عليه صلى الله عليه وسلم , فلقد حبب إليه الخلاء , وكان يخلو بنفسه فى غار حراء ([23] ) فيتحنث فيه , وهو التعبد الليالى ذوات العدد حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء , وهذا التعبد قبل النبوة من صفاء الفطرة ونقائها , ومن التفكر والتأمل فى الكون , والانقطاع عن مألوفات البشر فى هذه الخلوة , وله أكبر الأثر فى خشوع القلب , وصفاء الذهن , واستنارة القلب بنور الغيب .
ولقد لاحظت أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها – وهى الزوجة الوحيدة التى كانت مع النبى قبل النبوة وبعدها بفترة من الزمن – لاحظت هذه الفطرة النقية فيه قبل النبوة , ولاحظت هذا الاصطفاء من الله , فقالت لما أخبرها النبى صلى الله عليه وسلم بخبر الوحى فى الغار :" كلا والله لا يخزيك الله أبدً , إنك لتصل الرحم , و تصدق الحـديث , وتحـمل الكل, وتكسب المعدوم, وتقرى الضيف , وتعين على نوائب الحق "([24] )" ولقد قال أبو سفيان لهرقل لما سأله هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا , وهل يغدر ؟ قلت : لا " (5)
فهذه الشواهد والحقائق التاريخـية الصحيـحة الثابتة يتضح لنا من خلالها صفـاء الفـطـرة
النبوية ونقاءها , وتتجلى لنا من خلالها العناية الإلهية , و يتجلى الإعداد الرباني والاصطفاء للنبى صلى الله عليه وسلم , وهذا كله مما أثر فى بلاغته صلى الله عليه وسلم .
ثالثاً : نور القرآن وهديه :
لقد اختارالله محمداً صلى الله عليه وسلم من بين آلاف الفصحاء من قومه ليعجزهم بفصاحة القرآن , ووكل إليه أن يفسر كتابه , ويبين وحيه حين قال فى محكم التنزيل : (...وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) ( النحل : 44) , وحين قال: ( فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قومـاً لداً ) ( مـريم : 97) , وحـين قـال : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين ) (آل عمران : 164) إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بعمل الرسول فى الإبلاغ والتبيين والهداية والتوجيه ... , ولقد مكن الله لنبيه فى منبته ونفسه بما بهر به العقول إقناعاً وإفحاماً ... , ولقد أخذت آيات القرآن تتوالى فكانت الإجابة الشافية لكل ما جاش فى صدره من خواطر, وفتح الرسول عينيه على هذا البيان الهابط من أرفع سماوات , فإذا به ينقذه من حيرته , ويجيب على أسئلته , ويؤيد وجهة نظره فى الحياة والأشياء , ألم يكن النبى صلى الله عليه وسلم ينأى عن الأصنام ؟ لقد نزل بيان السماء بتحريم عبادة الأصنام , ألم يكن يشيح عن العصبية الحمقاء والتعالى بالانساب ؟ لقد نزل بيان السماء بأن الناس من أصل واحد من ذكر وأنثى . إن العناية التى استخلصته لرسالة السماء قد طبعت حياته بطابع السماء حتى إذا جاء زمان الدعوة صادف القرآن نفساً ظامئة , وقلباً تائقاً , وروحاً متطلعاً , فروى الظمأ , وشفى الغليل , وكان ذلك كله التفسير الصادق لقول الله : ( ووجدك ضالاً فهدى ) (الضحى : 7) ... ولقد كانت معانى النبى صلى الله عليه وسلم فى إرشاداتها ربانية , وكانت ألفاظه معرضاً رائعاً لمعانيه ؛ إذ كان القرآن أستاذ معانيه فإن أثره عليه عظيم جليل , فكان القرآن يثبته بمثـل قوله ([25] ):( وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لاتجد لك علينا نصيراً * وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلاً ) ([26] ) , وكان يثنى عليه أعظم الثناء , قال تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم : 4) إلى آخر ما جاء فى القرآن من حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم , ولو مكثنا نعدد المواضع التى جاء فيها ذكر النبى صلى الله عليه وسلم صراحة وإشارة لضاق بنا المقام , ولخرجنا عن مقصود البحث .
وكما أثر القرآن فى النبى صلى الله عليه وسلم فى هذه الناحية أى ناحية التوجيه والإرشاد والهداية والتثبيت إلخ أثر أيضاً فى بيانه أعظم الأثر , فمثلاً ضرب الأمثال شائع فى القرآن الكريم ؛ وذلك لما للمثل من أثر فى توضيح المعقول بالمـحسوس , وتقريب الأمور وتوضيحها , وترسيخها فى الأذهان ([27] ) نجد النبى صلى الله عليه وسلم قد سلك هذا المسلك فى دعوته , وفى بيان أمور الدين , وبيان خصال الخير التى يحبها الله من إنفاق فى سبيله وذكر له , كما ضرب الأمثال لخصال الشر التى لا يحبها الله مثل : النفاق , والبخل , ومجالسة الجليس السوء , والذى لا ينتفع بالعلم ولا ينفع غيره إلخ ([28] )
وسأوضح هذه الناحية بمثالين من أمثال الـقرآن مع ذكر ما يقابلهما فى الهدف من البيان النبوى , ومن ذلك الإنفاق فى سيبل الله حيث يقول تعالى : ( مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) ( البقرة : 261)
" التمثيل للأضعاف كأنها ماثلة بين عينى الناظر" ([29] ), وفى ذات الموضوع وهو الإنفاق يقول صلى الله عليه وسلم :([30] )" مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما , فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه , والبخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها " أوقع فى الحديث المتصدق مقابلاً للبخيل , والمقابل الحقيقى هو السخى إيذاناً بأن السخاوة هى ما أمر به الشرع وندب إليه من الإنفاق لا ما يتعاطاه المبذرون " ([31] )
وقال صلى الله عليه وسلم : " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل " ([32] ) بل نجد فى بعض الأحاديث يصدر الأمثال بنفس اللفظ الذى يستعمله القرآن :
فمثلاً الفعل " ضـرب " يـأتى فى بداية بعـض الأمــثال القرآنيـة , ومـن ذلـك قـوله تـعالى : ( ضرب الله مثلاً عبداً مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كلّ على مولاه أينما يوجهه لا يأتى بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) ( النحل : 75, 76 ) نراه صلى الله عليه وسلم يأتى فى صدر بعض الأحاديث بهذا الفعل " ضرب " مع إسناد ضرب المثل إليه سبحانه , ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً , وعن جنبتى الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ... " الحديث ([33] ) وهذا المثل النبوى فيه إشارة إلى أكثر من آية من كتاب الله , فقوله " وعن جنبتى الصراط سوران " فيه إشارة إلى قوله تعالى : ( وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ... ) (الأنعام : 153) وفى الحديث إشارة إلى المحارم التى لمح إليها قوله تعالى : ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ... ) ( الأنعام : 151) وهذا مثال فيما يتعلق بجانب الأمثال وضربها اتضح من خلاله أثر الأمثال القرآنية فى الأمثال النبوية , وسيأتى تفصيل لهذه الناحية فى الفصل التالى , وهو التفسير النـبوى للقـرآن .
(1) والحديث إسناده ضعيف . رواه الطبرانى فى الكبير (5437) وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد : فيه مبشر ابن عبيد . متروك , وذكره العراقى فى تخريج الإحياء , والعجلونى فى كشف الخفاء بلفظ :" أنا أعرب العرب "
(2) قال الرافعى رحمه الله : " ولا يزال كبراء مكة يرسلون أحداثهم إلى أماكن هذه الفبائل من البادية , وخاصة إلى فبيلة عدوان فى شرق الطائف , وهى قريبة من بنى سعد , وإنما يطلبون بذلك إحكام اللهجة العربية , وصحة النشأة , وحرية النزعة وما إليها مما هو الأصل فى هذه العادة التى يتوارثونها فى التربية من قديم . ينظر إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص 237
(1) أخرجه مسلم من حديث واثلة بن الأسقع – كتاب الفضائل , وانظره فى المشكاة ح(5740) 10351
(1) قلت : وقد غسل جبريل عليه السلام قلبه صلى الله عليه وسلم بماء زمزم وهو صغير كما فى هـذه الرواية عند مـسلم , واستخرج منه هذه العلقة , وغسل جبريل صدره وجوفه بماء زمزم قبل الإسراء به , وحشاه إيماناً وحكمة كما فى رواية البخارى ومسلم , ويراجع فى حديث أنس السابق صحيح مسلم بشرح النووى 2/217,216
(2) ومما تجدر الإشارة إليه أن حادثة شق الصدر قد تعددت كما صح فى رواية مسلم التى سبق ذكرها , وفى رواية البخارى عند المعراج به صلى الله عليه وسلم , ولقد ذكر البخارى حديث شق الصدر فى كتاب الصلاة – باب كيف فرضت الصلاة فى المعراج – ح(345) 1549, وذكره مسلم فى كتاب الإيمان – باب الإسراء برسول الله 2209- 222 , ولقد ذكر ابن حجر أن القاضى عياض رجح أن شق الصدر كان وهو صغير عند مرضعته حليمة , وتعقبه السهيلى بأن ذلك وقع مرتين وهو الصواب , فوقع شق الصـدر وهو صـغير , ووقع أيضاً عند البعثة كما أخرجه أبو داود الطـيالسى فى مسـنده , وأبو نعيم , والبيهقى فى دلائل النبوة , وذكر أبو بشر الدولابى بسنده أن بطنه صلى الله عليه وسلم أخرج ثم أعيد , وأنه ذكر ذلك لخديجة رضى الله عنها . ومحصله أن الشق الأول كان لاستعداده لنزع العلقة التـى قيل له عندها : هذا حظ الشيطان منك . والشق الثانى كان لاستعداده للتلقى الحاصل فى تللك الليلة . وقد روى الطيالسى , والحارث فى مسنديهما من حديث عائشة أن الشق وقع مرة أخرى عند مجئ جبريل له بالوحى فى غار حراء , وروى الشق أيضاً وهو ابن عشر أو نحوها فى قصة له مع عبد المطلب أخرجها أبو نعيم فى الدلائل , وروى مرة أخرى خامسة ولاتثبت . والشق الأول والثانى قد ثبتا فى الصحيحين . يراحع صحيح مسلم بشرح النووى 2/209- 222, وفتح البارى 1/549, 13/489
(3) أى صغار من الضأن مفرده بهمة , والذكر والأنثى فى ذلك سواء .
(4) أى يسرع .
(5) يقال : سطت اللبن أسوطه إذا ضربته بعضه ببعض . واسم العود الذى يضرب به السوط .
(6) أى متغيراً . يقال : انتقع لونه إذا تغير من حزن أو فزع , وكذلك امتقع بالميم .
(7) يراجع السيرة النبوية لابن هشام 1/165,164 ط الحلبى – ط ثانية – (1375) هـ (1955) م
(8) يراجع الرحيق المختوم ص 65
(1) ينظر شرح الطيبى على مشكاة المصابيح 11/65,64
(2) يقال : صبى جفر إذا انتفخ لحمه .
(3) ينظر السيرة النبوية لابن هشام 1/168
(4) الدجن : إلباس الغيم الأرض , وأقطار السماء . يقال : يوم دجن , ويوصف به فيقال : يوم دجن . ويقال : دجن السحاب : أمطر , والسماء : دام مطرها.
(5) يقال : قثم فلان فى مشيه قثماً : أبطأ , والقثم : المعطاء والمجتمع الخلق , القثوم : الجموع للخير جمعها قثم .
(1) اختلف العلماء فى صحة هذا الحديث , فصححه الحاكم والذهبى , وضعفه ابن كثير فى البداية والنهاية 2/287, وينظر الرحيق المختوم .
(2) رواه البخارى – باب بنيان الكعبة , ويراجع الرحيق المختوم .
(3) يراجع مختصر سيرة الرسول للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 51
(4)يراجع السابق ص 51

(1) ولما نزل الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ,وجهر بالدعوة , وقال لهم : " أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل " و فى رواية " أن خيلاً تخرج بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى ؟ قالوا : نعم , ما جربنا عليك إلا صدقاً " والحديث متفق عليه من حديث ابن عباس . ينظر المشكاة ح(5846) 1158
(2) ينظر السيرة النبوية لابن هشام 1/197,196, ومختصر سيرة الرسول ص 51
(3) وهو جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى .
(4)لا يخزيك : بضم الياء من الخزى وهو الفضيحة والهوان . والكل : الثقل , ويدخل فى حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك , وهو من الكلال : أى الإعياء . وتكسب : بفتح التاء هو الصحيح المشهور , وروى بضمها , ومعناه بالضم تكسب غيرك المال وتعطيه إياه تبرعاً , ومعنى الفتح كمعنى الضم , والنوائب : جمع نائبة وهى الحادثة , وإنما أضيفت إلى الحق لأن النائبة قد تكون فى الخير وقد تكون فى الشر . وأرادت أنك ممن لم يصبه مكروه لما جمع الله فيك من مكارم الأخلاق , ومحاسن الشمائل , وفيه أعظم دليل , وأبلغ حجة على كمال خـديجة رضى الله عنها , وجزالة رأيها , وقوة نفـسها , وثبات قلبها , وعظم فقهها . وهذا الحديث متفق عليه من حديث عائشة ويراجع شرحه فى شرح الطيبى على المشكاة ح(5841)1144- 53, وفتح البارى 130
(5) متفق عليه من حديث ابن عباس . المشكاة ح (5861) 11/74- 77
(1) الآيات من ( 73-77) من سورة الإسراء
(1) ينظر البيان النبوى ص 53- 70
(2) ولقد جمع ابن القيم الأمثال القرآنية , وبين ما فيها من أسرار بلاغية فى كتابه القيم الأمثال فى القرآن – ط دار المعرفة – بيروت – تحقيق أ . سعيد محمد نمر .
(3) وسيأتى تفصيل ذلك فى الفصل الخاص بالأمثال فى الحديث النبوى فى الباب الرابع من البحث .
(4) ينظر الكشاف 1/338, والأمثال فى القرآن ص253-258
(5) متفق عليه من حديث أبى هريرة ’ مشكاة المصابيح ح ( 1864) 4/89

(1) ينظر شرح الطيبى على المشكاة 4/89
(2) متفق عليه من حديث أبى هريرة . المشكاة ح(1888) 4/110
(3) بقية الحديث " وعلى الأبواب ستور مرخاة , وعند رأس الصراط داع يقول : استقيموا على الصراط ولا تعوجوا , وفوق ذلك داع يدعو كلما هم عبد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه , فإنك إن تفتحه تلجه " ثم فسره فأخبر أن الصراط الإسلام , وأن الأبواب المفتحة محارم الله , وأن الستور المرخاة حدود الله ,وأن الداعى على رأس الصراط هو القرآن , وأن الداعى من فوقه هو واعظ الله فى قلب كل مؤمن " والحديث رواه رزين وأحمد والترمذى . المشكاة ح(191) 1/384,383

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق