الجمعة، 10 أبريل 2009

المبحث الثانى : اللغة التى نزل بها القرآن :
حديثنا هنا عن اللغة التى اختارها الله لأفصح كتاب , والتى قال عنها فى سياق الحديث عن القرآن
مخاطباً النبى صلى الله عليه وسلم : ( وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين )[ الشعراء : 192 – 195 ]

" فتنزيله بالعربية التى هى لسانك , ولسان قومك تنزيل له على قلبك ؛ لأنك تفهمه , ويفهمه قومك . ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك ؛ لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها . وقد يكون الرجل عارفاً بعدة لغات فإذا كلم بلغته التى لقنها أولاً ونشأ عليها وتطبع بها لم يكن قلبه إلا إلى معانى الكلام يتلقاها بقلبه , ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت وإن كلم بغير تلك اللغة وإن كان ماهراً بمعرفتها كان نظره أولاً فى ألفاظها ثم فى معانيها , فهذا تقرير أنه نزل على قلبه بلسان عربى مبين "([1])
وتحليل الزمخشرى للآية هنا تحليل دقيق ينم عن فهم وعلم بأثر اللغة فى صاحبها , وكيف يتشربها عقله وقلبه حتى تكون جزءاً من كيانه ووجدانه , والتعبير بنزول القرآن على قلب النبى هنا له دلالته الموحية المعبرة عن استقرار القرآن ورسوخه فى قلب النبى صلى الله عليه وسلم , وذلك يدل على ثبات القرآن وحفظه فى صدره , كما يدل على الإدراك الكامل لمعانيه , وذلك شأن ما يستقر فى القلب ([2]) فلو عبر بنزول القرآن على اللسان فقط فلربما سبق إلى الفهم أن الأمر فيه مقتصر على أداء اللفظ القرآنى .
أما نزوله على القلب فبيان لثبوت اللفظ والمعنى للنبى صلى الله عليه وسلم , وتقرير لبيان القرآن وتفصيله على لسان النبى صلى الله عليه وسلم , وتقرير للفهم الكامل , وأن الوحى قد تقرر على لسان النبى لفظه , وثبت فى قلبه بيانه , وتأمل فى دلالة " على " فى سياق الآية فهى توحى بمعنى استعلاء القرآن واستقراره وتمكنه من قلب النبى صلى الله عليه وسلم على غرار قوله تعالى فى شأن المتقين : ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) فما أدق تعبير القرآن وأروعه .
"هذا واللغات السبع المشهورة بالفصاحة فى العرب العرباء : هى لغة قريش , وهذيل , وهوازن , واليمن , وطئ , وثقيف , وبنى تميم " ([3]) والقرآن الكريم إنما نزل بلغة قريش فى معظمه وأكثره , ولقد أشار السيوطى إلى ما وقع فى القرآن بغير لغة الحجاز فى النوع السابع والثلاثين من كتابه الإتقان ([4]) كما أشار إلى ذلك صاحب البرهان فى أكثر من موضع من كتابه([5]) وقال أبو حاتم السجستانى : " نزل القرآن بلغة قريش , وهذيل , وتميم , والأزد , وربيعة , وهوازن , وسعد بن بكر " .
وقال أبو عبيد فى الأحرف السبعة : " ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات , بل اللغات السبع مفرقة فيه , فبعضه بلغة قريش , وبعضه بلغة هذيل , وبعضه بلغة هوازن , وبعضه بلغة اليمن وغيرهم "([6])
وقال الباقلانى : " ولم تقم حجة قاطعة على أن القرآن بأسره نزل بلغة قريش , بل ثبت أن فيه همزاً وقريش لا تهمز , بل ثبت أن فيه حروفاً وكلمات بغير لغة قريش . ويجزى من الدليل قوله : ( إنا جعلناه قرآناً عربياً ...) ولم يقل قرشياً , فلم يجز لأحد أن يدعى أن المراد بـالعربى لغة قريش خاصة ؛ لأن ذلك يدخل عليه ادعاء غيره أنه منزل بلغة ربيعة , أو قحطان , بل اسم العرب يتناول جميع قبائل العرب . ولو ساغ لمدع أن يدعى أنه إنما أراد قريشاً وحدها لساغ لآخر أن يدعى أنه إنما أراد قبيلة من قريش " ([7])
وقال أبو عمر بن عبد البر فى التمهيد : " قول من قال : نزل بلغة قريش معناه عندى فى الأعم الأغلب ؛ لأن لغة غير قريش موجودة فى جميع القرآن من تحقيق الهمزة , ونحوها , وقريش لا تهمز ... " ([8]) وهذا ما ذهب إليه الأزهرى وابن مالك أيضاً . ولقد نقل السيوطى فى النوع السابع والثلاثين ما وقع فى القرآن بغير لغة الحجاز .
واستنكر ابن قتيبة ذلك , وقال : " لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش , واحتج بقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ...) [ إبراهيم : 4 ] فعلى هذا تكون اللغات السبع فى بطون قريش , وبذلك جزم أبو على الأهوازى "
وذهب أبو شامة مذهباً توفيقياً مخالف فى وجهته لمذهب هؤلاء , فالقرآن عنده أنزل أول مرة بلسان قريش , ثم أذن للعرب أن يقرءوه على لغاتهم تسهيلاً , ولم يكلف أحداً منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية , ولطلب تسهيل فهم المراد ([9])
فالقرآن الكريم على هذا الرأى نزل أولاً بلسان قريش , ثم أذن للعرب أن يقرءوه على لغاتهم من الأحرف التى كان ينزل بها جبريل على النبى بعد الحرف الأول لما طلب النبى صلى الله عليه وسلم الزيادة عليه تيسيراً على الامة , فكان جبريل ينزل بهذه الأحرف فى عرضاته على النبى صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن ينزل من ألفاظ اللغات الأخرى التى تدعو إليها الحاجة , ثم كان أن استقر الأمر آخراً بعد زوال الضرورة على هذا الحرف , وهو لغة قريش ([10])
(1) الكشاف 3/340
(2) ومن كلام شيخ زادة النفيس فى بيان هذه الآية قوله : " ... إذ القرآن متلبس بكسوة الحروف والألفاظ إنما أنزل على روح رسول الله لا مجرد الجسد , إذ ليس للجسد حظ من إدراك المعانى الروحية . والقلب وسائر الأعضاء آلات الإدراك , والمكلف والمخاطب والمدرك إنما هو الروح لا الأعضاء والآلات . إلا أنه يجوز أن يراد بالقلب العضو المخصوص كما هو المتبادر عند إطلاقه , فحينئذ يكون جعل القرآن نازلاً على فلبه مع أنه نازل عليه لا على عضوه مبنياً على كون القلب موضعاً لقوة العقل والفهم . فإن الروح إنما تدرك بتلك القوة المودعة فى القلب , فلا جرم تنتقل المعانى الروحانية النازلة على الروح إلى القلب لما بينهما من التعلق على الوجه المذكور ... فالقرآن كلام الله تعالى وصفته القائمة به كساه كسوة الألفاظ المركبة من الحروف العربية , ونزله إلى جبريل , وجعله أميناً عليه , ثم نزل به كما هو على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعرفه ويتخلق بخلقه , ويتنور بأنواره , ويتخلى بحقائقه و ففهمه وتمكن من تفهيمه لغيره , فهو عليه أفضل الصلاة والسلام مختص بهذه الرتبة العلية والكرامة السنية من سائر الانبياء , فإن كتبهم أنزلت عليهم بالألواح والصحائف جملة واحدة , فهى منزلة على صورهم وظاهرهم لا على قلوبهم . حاشية شيخ زادة 6/ 361 , 362 , وحاشية الشهاب 7/ 36 , 37
(3) الكليات صـ 796
(1) الإتقان 3/ 904 – 933 ط مجمع الملك فهد للمصحف الشريف .
(2) البرهان 1/ 11, 283 ط المكتبة العصرية – بيروت . هذا ولقد ذكر ابن حسنون فى كتابه " اللغات فى القرآن " اللغات التى نزل بها القرآن على ترتيب السور , وكذلك أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتابه لغات القبائل الواردة فى القرآن .
(3) الإتقان 1/322
(4) نكت الانتصار لنقل القرآن صـ 385 , 386 ط دار المعارف بالإسكندرية , ولغة القرآن لغة العرب المختارة صــ48 د/ محمد رواس ط دار النفائس .
(5) البرهان 1/ 284 , وتفسير القرطبى 1/33 , والنشر فى القراءات العشر 1/ 23 – 33 هذا ولقد ذكر أبو بكر الواسطى فى كتابه الإرشاد فى القراءات العشر فى القرآن من اللغات خمسون لغة : لغة قريش , وهذيل , وكنانة , وخثعم , والخزرج , وأشعر , وجرهم , وكندة , وتميم , وخزاعة , وغطفان , وسبأ , وعمان , وثعلب , وعامر بن صعصعة , وهوازن , واليمامة... إلخ كما أشار إلى ذلك الزركشى فى البرهان عند حديثه عن الأحرف السبعة مبيناً فى الوجه الرابع أن المراد سبع لغات لسبع قبائل من العرب , وليس معناه أن يكون فى الحرف الواحد سبعة أوجه , أى نزل على سبع لغات متفرقة فى القرآن , فبعضه نزل بلغة قريش , وبعضه بلغة تميم , وبعضه بلغة هوازن , وكذلك سائر اللغات , ومعانيها فى هذا كله واحدة . البرهان 1/217 ويراجع للاستزادة الإتقان 1/134-136 ط دار الفكر .
(6) الإتقان 1/322 ,323, 3/ 904-933 , وفنون الأفنان صـ214 – 219 لابن الجوزى ط دار البشائر الإسلامية – ط أولى – (1408)هــ (1987) م. ولغة قريش صــ281 للأستاذ/ مختار الغوث ط دار المعراج – ط أولى – (1418)هــ(1997) م.
(1) المدخل لدراسة القرآن الكريم صـ180 ,181 للدكتور/ أبو شهبة ط دار اللواء – ط ثالثة – (1407) هـ (1987) م , ولغة قريش صــ281

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق