الأحد، 10 يناير 2010

أسباب النزول وبلاغة النظم فى القرآن الكريم - دراسة بلاغية فى روعة النظم القرآن والتحامه مع أسباب النزول للآياتhttp://www.blogger.com/post-create.g?blo

الفصل الثالث : أسباب النزول

المبحث الأول : معنى سبب النزول وأهميته :

وهو علم جليل من علوم القرآن لا يستغنى عنه مفسر وباحث عن معانى آيات كتاب الله. والذى يتحرر فى معناه ما ذكره السيوطى : " أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه . ليخرج ما ذكره الواحدى فى سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به , فإن ذلك ليس من أسباب النزول فى شئ , بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية لذكر قصة نوح , وعاد , وثمود , وبناء البيت , ونحو ذلك . وكذلك ما ذكره فى قوله تعالى : ( واتخذ الله إبراهيم خليلاً ) [ النساء : 125 ] سبب اتخاذه خليلاً , فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى " ([1])

وهذا العلم له ضوابط لابد من مراعاتها عند البحث عن أسباب نزول الآيات فى كتاب الله , وعند استنباط الأحكام من خلال أسباب النزول . ولذلك قال الواحدى : " ولا يحل القول فى أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل , ووقفوا على الأسباب , وبحثوا عن علمها , وجدوا فى الطلاب " ([2])

وأهمية هذا العلم تكمن فى أنه معين على فهم كتاب الله , ومعرفة مناسبات الآيات . وفى ذلك يقول ابن دقيق العيد : " بيان سبب النزول طريق قوى فى فهم معانى كتاب الله " ([3]) ويقول ابن تيمية : " ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية , فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ؛ ولهذا كان أصح قولى الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه , ما هيجها وأثارها " ([4]) وقال الشيخ القشيرى : " بيان سبب النزول طريق قوى فى فهم معانى الكتاب العزيز وهو أمر تحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا " ([5]) فمن أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه ؛ لأن فيها بيان مجمل , أو إيضاح خفى موجز , ومنها ما يكون وحده تفسيراً , ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التى بها تأويل الآية , أو نحو ذلك .

وهذا العلم قد وقف بعض العلماء إزاءه موقف الإفراط والتفريط . فبعضهم بالغ فى زعم أن هذا العلم لا طائل تحته لجريانه مجرى التاريخ . وبعضهم أولع بتطلب أسباب النزول لآى القرآن , وأغربوا فى ذلك وأكثروا , حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب , وحتى رفعوا الثقة بما ذكروا. ([6]) وخير الأمور الوسط , وفى ذلك يقول الزركشى : " أخطأ من زعم أنه لا طائل تحت هذا العلم لجريانه مجرى التاريخ , وليس كذلك , بل له فوائد , منها : وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم , ومنها تخصيص الحكم عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب , ومنها الوقوف على المعنى , ومنها أنه قد يكون اللفظ عاماً ويقوم الدليل على التخصيص , فإن محل السبب لا يجوز إخراجه بالاجتهاد , والإجماع كما حكاه القاضى الباقلانى فى مختصر التقريب , ومنها أيضاً : دفع توهم الحصر , ومنها إزالة الإشكال " ([7])

وقد تنزل الآيات على الأسباب خاصة , وتوضع كل واحدة منها مع ما يناسبها من الآى رعاية لنظم القرآن , وحسن السياق , فذلك الذى وضعت معه الآية نازلة على سبب خاص للمناسبة إذا كان مسوقاً لما نزل فى معنى يدخل تحت ذلك اللفظ العام , أو كان من جملة الأفراد الداخلة وضعاً تحت اللفظ العام , فدلالة اللفظ عليه : هل هى كالسبب فلا يخرج , ويكون مراداً من الآيات قطعاً ؟ أو لا ينتهى فى القوة إلى ذلك ؟ لأنه قد يراد غيره , وتكون المناسبة مشبهة به ؟ فيه احتمال ... " ([8])

والموضوع له تفصيلات كثيرة , وفروع تراجع فى كتاب البرهان للزركشى , والإتقان للسيوطى , وغيرهما من كتب علوم القرآن المعاصرة كمناهل العرفان للزرقانى , ومباحث فى علو م القرآن لمناع القطان , ومدخل لدراسة القرآن لأبى شهبة . فلا حاجة هنا لكثرة النقل , والتكرار فيما لا يقتضيه البحث , وإنما يعنينا هنا صلة سبب النزول ببلاغة النظم القرآنى .

المبحث الثانى : العلاقة بين سبب النزول وبلاغة النظم القرآنى :

إذا كانت معرفة سبب النزول من خير السبل لفهم معانى القرآن , وكشف الغموض الذى يكتنف بعض الآيات فى تفسيرها فى الظاهر ما لم يعرف سبب النزول ([9]) فإن دراسة هذا العلم مما له مدخل كبير فى بلاغة القرآن ؛ لأنه مرتبط بوجوه المناسبة بين الآيات . وعلم المناسبة علم شريف من علوم القرآن لما فيه من بيان وجوه الارتباط بين المعانى , واتساق النظم والتحامه فى القرآن الكريم , والتناسب بين الآيات فى ترتيبها . فإن من أسباب النزول ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات , فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام ([10]) ومن هنا فلقد جرت عادة المفسرين أن يبدؤا بذكر سبب النزول , ووقع البحث : أيما أولى البداءة به : بتقدم السبب على المسبب , أو المناسبة لأنها المصححة لنظم الكلام , وهى سابقة على النزول ؟ والتحقيق التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفاً على سبب النزول كما فى قوله تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ...) [ النساء : 58 ] ([11])

فهذا ينبغى فيه تقديم ذكر السبب ؛ لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد , وإن لم يتوقف على ذلك فالأولى تقديم المناسبة ([12]) فلما تقدم فى هذه السورة الأمر بالإحسان , والعدل فى النساء , واليتامى فى الإرث وغيره , وفى غير ذلك من الدماء والأموال , والأقوال , والأفعال , وذكر خيانة أهل الكتاب وما أحل بهم لذلك من العقاب , وذكر أنه آتى هذه الأمة الملك المقتضى للحكم , وآتاهم الحكمة بعد جهلهم وضعفهم , أقبل عليهم بلذيذ خطابه بعد ما وعدهم على امتثال أمره من كريم ثوابه بما ختمه بالظل الموعود على العدل فى حدي " سبعة يظلهم الله فى ظله ..." فقال : ( إن الله يأمركم ) أى أيتها الأمة ( أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) أى من غير خيانة ما كما فعل أهل الكتاب فى كتمان ما عندهم , والإخبار بغيره . والأمانة : كل ما وجب لغيرك عليك ([13])

وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت فى شأن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة حاجب الكعبة المعظمة , وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه ([14]) . وهذا من المشهور أن الآية نزلت في ذلك , وسواء كانت نزلت فى ذلك أولا فحكمها عام ؛ ولهذا قال ابن عباس , ومحمد بن الحنفية : هى للبر والفاجر , أى أمر لكل أحد ([15])

فمن خلال ما سبق يتضح لنا كيف أن سبب النزول فى النظم القرآنى يرتبط بالمناسبة تمام الارتباط , وأن الآيات الواردة على أسباب معينة , وحوادث محددة لا تخرج عن سياق النظم القرآنى من جهة الترتيب والإعجاز , وذلك سر بديع من أسرار الإعجاز القرآنى , وآية عظيمة من آيات البلاغة فى نظم القرآن . ففى نزول القرآن عند حدوث حوادث معينة دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال , وهى إحدى طريقتين لبلغاء العرب فى أقوالهم , فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين ([16]) ولننتقل إلى المعين الصافى من القرآن , ففيه البيان الشافى لما نحن بصده من علاقة الأسباب ببلاغة النظم فى القرآن .

فمن ذلك قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [ البقرة : 143 ] ففى الصحيحين عن البراء بن عازب قال : مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا , فلم ندر ما نقول فيهم ؟ فأنزل الله : (...وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ...) . وروى البخارى فى صحيحه عن البراء أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً , وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت , وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر , وصلى معه قوم , فخرج رجل ممن صلى معه , فمر على أهل المسجد وهم راكعون , فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم قبل مكة , فداروا كما هم قبل البيت . وكان الذى مات على القبلة فبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ماذا نقول فيهم . فأنزل الله : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) ([17])

وهنا نلمح مدى الارتباط بين سبب نزول الآية , والسياق الذى جاءت فيه . فالسياق يتحدث عن تحويل القبلة , وما سيتكلم به السفهاء من اليهود وأشباههم ([18]) حول السبب فى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام , وذلك من أول قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ البقرة : 142 ] ولقد جاءت الآية التالية لها من أول قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ... ) جاءت من أولها ممهدة وموطئة لسبب النزول ؛ حيث أشارت أولاً إلى أن الانتقال من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام إنما هو لوسطية الأمة التى جمعت فى توجهها نحو بيت المقدس قبلة السابقين , وما حولت إليه من قبلة الخليل إبراهيم عليه السلام , وأن هذا التحويل إنما الهدف منه معرفة من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه , ففيه ابتلاء وامتحان للثابتين على الحق المستمسكين به مع تحويل القبلة ممن هدى الله , ومن تتزلزل قلوبهم من أهل الشك والضعف فى اليقين (...وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ... ) . ولما كان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام كان بعد هجرة النبى إلى المدينة بستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً , وكان قد مات أناس صلوا إلى المسجد الأقصى فى مكة , وفى الأشهر الأول من المدينة جاء السؤال عن حال هؤلاء الذين ماتوا قبل التحويل , وعن صلاتهم إلى المسجد الأقصى .

فجاء سبب النزول هنا مدمجاً مع الحدث والحوار فى شأن تحويل القبلة , ملتحماً مع الغرض والسياق تمام الالتحام . فجاء قوله تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) بعد ما عرض من الحوار السابق .

وهنا نلمح مدى الإعجاز فى سياق الآية وسباقها . فالتعبير هنا عن عدم ضياع الإيمان شامل لمن مات من أهل القبلة قبل التحويل , ولمن هو حى وسامع وقت التحويل . ولذلك تنوعت عبارات العلماء فى تأويل الإيمان المقصود فى هذه الآية الكريمة , فابن عباس يقول : (...وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ... ) أى بالقبلة الأولى , وتصديقكم نبيكم , واتباعه إلى القبلة الأخرى , أى ليعطيكم أجرهما جميعاً (... إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ... ) والحسن البصرى يقول : " أى ما كان الله ليضيع محمداً وانصرافكم معه حيث انصرف " ([19]) وقال البغوى : " (...وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ... ) أى صلاتكم إلى بيت المقدس " ([20]) وقال الزمخشرى : " أى ثباتكم على الإيمان , وأنكم لم تزلوا ولم ترتابوا , بل شكر صنيعكم , وأعد لكم الثواب العظيم , ويجوز أن يراد وما كان الله ليترك تحويلكم لعلمه أن تركه مفسدة , وإضاعة لإيمانكم , وقيل : من كان صلى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة " ([21])

فالتعبير بنفى ضياع الإيمان هنا شامل لمن اتبع الرسول من الأحياء على هدى ويقين بدون شك أو تردد وسلك سبيله , وشامل لمن مات قبل التحويل حيث صلى إلى بيت المقدس . فجاء سبب النزول للآية غير مفصول أو منقطع عن نظمها ومعناها وسياقها ؛ حيث مهد أولاً بالحديث عن السفهاء وما سيقولونه , وموقفهم إزاء تحويل القبلة وما قالوه , والغرض من هذا التحويل , وبيان حال أهل الإيمان , وما كتب لهم من الثبات عند التحويل , ويشمل أيضاً حال من مات قبل هذا التحويل , وأن صلاته غير ضائعة عند الله .

ولقد جاء السياق بعد ذلك ملتحماً ومنسجماً مع ما سبق حيث عرض لسر آخر من أسرار تحويل القبلة (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) [ البقرة : 144 ] وتمضى الآيات بعد ذلك تتحدث عن أهل الكتاب الذين أنكروا على النبى صلى الله عليه وسلم تحويل القبلة , وأن النبى صلى الله عليه وسلم مهما جاءهم من الآيات ما تبعوه , ولا تبعوا قبلته مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم , وأن هذا هو الحق من الله , وأن لكل وجهة هو موليها , وأن عليه أن يتوجه شطر المسجد الحرام من حيث خرج , وعلى المسلمين ذلك أيضاً حيث كانوا أن يولوا وجوههم شطره ([22])

نلمح كيف تنساب الآيات وتتسلسل منسجمة لا انقطاع فى الموضوع أو الهدف والغاية , إنما هى سبيكة واحدة أفرغت إفراغاً واحداً , جاء سبب النزول فيها مرتبطاً بالغرض تمام الارتباط . ولنا وقفة هنا حول الغرض من التعبير بـ " الإيمان " ونفى ضياعه فى سبب النزول . فلقد أطلق الإيمان هنا على الصلاة ؛ لأنها أعظم آثار الإيمان , وأشرف نتائجه , أو لأن المراد لا يضيع ثواب تصديقكم بوجوب الصلاة ([23]) أو أنه أطلق الإيمان وأراد به الصلاة مجازاً على طريق إطلاق اسم السبب على المسبب , فإن الإيمان سبب لكون الصلاة عبادة معتبرة شرعاً ؛ إذ لا صحة للعبادات بدون الإيمان . وتسمية الشئ باسم سببه شائع فى كلام البلغاء .

" وفى هذا التجوز إشارة إلى أنه تعالى لا يضيع شيئاً مما عملوه امتثالاً لأمر الله تعالى , وقصداًَ لطاعته , بل يثيبهم عليه ثواباً جزيلاً , وإن طرأ عليه النسخ بعد العمل به فإن الصلاة الواقعة عن الإيمان إذا لم تكن ضائعة يفهم منه أن كل عمل واقع عنه لا يضيع ..." ([24]) وقيل : " إنما سمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على قول ونية وعمل " ([25]) أو لأنها لما كنت صادرة عن الإيمان والتصديق فى وقت بيت المقدس وفى وقت التحويل , ولما كان الإيمان قطباً عليه تدور الأعمال , وكان ثابتاً فى حال التوجه هنا وهنا ذكره ؛ إذ هو الأصل الذى به يرجع فى الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهى ولئلا تندرج فى اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس , فذكر المعنى الذى هو ملاك الأمر , وسميت إيماناً إذ هى من شعب الإيمان ([26])

فالتعبير عن الصلاة بالإيمان شامل – فيما يبدو – لكل هذه المعانى ؛ حيث إن استجابة الصادقين للتحويل إنما صدرت عن إيمانهم وتصديقهم , ولأن صلاتهم صادرة عن الإيمان , ولأن الإيمان هو منبع اليقين وأصل الدين المكين , ولأجل أن يتميز هؤلاء الصادقون من غيرهم . فجاء التعبير بالإيمان إيجازاً جامعاً لكل هذه المعانى والمقاصد , شاملاً لمن عاش مصدقاً ولمن مات مصدقاً , وكاشفاً لمن كان منافقاً ومتابعاً فى الظاهر دون يقين فى الباطن .

ولقد ختمت الآية الكريمة بما يناسب السياق السابق , وجاءت الفاصلة مرتبطة بالغرض تمام الارتباط حيث جاءت (... إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ... ) فجاء فى الفاصلة ذكر الرأفة والرحمة بعد الحديث عن تحويل القبلة , وعدم ضياع صلاة من صلى إلى المسجد الأقصى . فتحويل القبلة , وضمان أجر المؤمنين الصادقين رأفة ورحمة , كما أن تحويل القبلة كشف المنافقين الذين كبر عليهم تحويل القبلة (... وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى ... ) فكان ذلك رأفة ورحمة بالمؤمنين حيث كشف لهم أعداءهم , وتحويل القبلة رأفة ورحمة بالنبى صلى الله عليه وسلم حيث كان يقلب وجهه فى السماء راجياً أن يحول إلى البيت الحرام لما كان اليهود يقولون : يخالفنا , ويتبع قبلتنا , وكما أنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام , ولأنها أقدم القبلتين , وأدعى للعرب للإيمان ([27]) قال تعالى : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ... ) فذكر الرأفة والرحمة هنا مما هو مناسب للسياق والسباق تمام المناسبة ؛ لأن الرأفة : هى المبالغة فى الرحمة , ولذلك قدمت على " رحيم " فالرأفة مبالغة فى رحمة خاصة , وهر فع المكروه , وإزالة الضرر كما يشير إليه قوله تعالى : (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ... ) [ النور : 2 ] أى لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما . والرحمة أعم منه . ومن الأفضال دفع الضرر أهم من جلب النفع ([28]) فالرؤوف : فعول , ومعناه : المبالغة فى الرحمة . فالرحيم أعم , والرؤوف أبلغ ؛ ولذلك جمع بينهما لإثبات المعنيين , وبدأ بالأبلغ , وختم بالأعم ([29])

ويرى بعض المفسرين أن تقديم الرأفة على الرحمة لأن الرأفة عبارة عن إيصال النعم الصافية عن الآلام , والرحمة إيصال النعم مطلقاً , وقد يكون مع الألم ([30]) وذكر الناس قبل الرأفة والرحمة ليفيد العموم , أى بالناس الذين هم أعم من المؤمنين وغيرهم ممن ينوسون بين حال الهدى والفتنة . ولذلك جاء بالرأفة بعد ذلك , أى فيرحم من يشاء ممن توصل إليه بعمل صالح رأفة منه به . فإن الرأفة كما قال الحرالى : عطف العاطف على من يجد عنده منة وصلة , فهى رحمة ذى الصلة بالراحم . قال : والرحمة تعم من لا صلة له بالراحم , وذلك مقتض لكونها أشد الرحمة وأبلغها وألطفها . قال البقاعى : ويجوز أن يكون تعليلاً للكلام من أوله فيكون المعنى أن صفتى رأفته ورحمته مقتضيتان للتمييز بين المؤمنين وغيرهم للعدل بين الناس ؛ لأن تسوية المصلح بالمفسد يؤلم المصلح ([31])

فالرؤوف والرحيم مما يناسب السياق كما سبق , ويلتحم مع الغرض تمام الالتحام . وهنا جاء سبب النزول فى الآية متفق مع المعنى والنظم , وذلك مظهر من مظاهر الإعجاز والدقة والإبداع فى النظم القرآنى .

ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ آل عمران : 77 ] " فلقد روى الشيخان وغيرهما أن الأشعث قال : كان بينى وبين رجل من اليهود أرض فجحدنى فقدمته إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : " ألك بينة " ؟ قلت : لا , فقال لليهودى : " احلف " فقلت : يا رسول الله إذن يحلف فيذهب مالى , فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ...) إلى آخر الآية . وأخرج البخارى عن عبد الله بن أوفى أن رجلاً أقام سلعة له فى السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت هذه الآية ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ...) . وأخرج ابن جرير عن عكرمة : إن الآية نزلت فى حيى بن أخطب , وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله فى التوراة وبدلوه وحلفوا أنه من عند الله . قال الحافظ ابن حجر : الآية محتملة , لكن العمدة ما ثبت فى الصحيح " ([32])

وكما يلاحظ أن هناك أكثر من سبب لنزول الآية . فبعض المفسرين كما سبق جعلها فى اليهود , وفى خيانتهم للعهد الذى أخذه الله عليهم من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم , وذكر صفته . وبعضهم جعلها فى المنفق سلعته بخداع المسلمين . وبعضهم جعلها فى قصة الأشعث وخصمه السابقة . ولا مانع من تعدد سبب النزول فى تلك الحالة ([33]) كما هو معلوم ومقرر عند العلماء , بل إن تعدد سبب النزول فى تلك الحالة مظهر من مظاهر الإعجاز فى النظم فوق الإعجاز الأول الخاص بسبب واحد ؛ حيث إن نزول الآية على أسباب متعددة مع انسجامها مع السياق , والتحامها فى النظم وارتباطها بالمناسبة من أجل مظاهر الإعجاز فى القرآن .

ونلمح ذلك بجلاء فى هذا الموضع الذى نحن بصدده . فإذا قلنا : إن الآية نزلت فى اليهود ونكثهم للعهد الذى أخذ عليهم من اتباع النبى صلى الله عليه وسلم , وبيان صفته فى كتبهم , وعدم كتمان ذلك – وهو فيما يبدو لى الوجه الأول من وجوه أسباب النزول فى الآية – لوجدنا أن السياق والنظم يتفقان مع هذا السبب , ويرتبطان بهذا المعنى تمام الارتباط ."حيث إن مناسبة هذه الآية إلى ما قبلها أن فى خيانة الأمانة إبطالاً للعهد , وللحلف الذى بينهم وبين المسلمين وقريش . والكلام استئناف قصد منه ذكر الخلق الجامع لشتات مساوئ أهل الكتاب من اليهود , دعا إليه قوله : (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...) [ آل عمران : 69 ] , وما بعده " ([34])

ولذلك جاء فى السياق القرآنى من العذاب الذى ينتظرهم ما يتناسب مع سوء صنيعهم . فقال : (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ... ) أى لا نصيب لهم فيها , ولا حظ لهم منها (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ...) أى برحمة منه لهم بمعنى لا يكلمهم كلام لطف بهم " ([35])

(وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ...) وذلك مجاز عن الاستهانة بهم , والسخط عليهم . تقول : فلان لا ينظر إلى فلان تريد نفى اعتداده به وإحسانه إليه ([36]) إذ قد شاع نفى الكلام فى الكناية عن الغضب , وشاع استعمال النظر فى الإقبال والعناية , ونفى النظر فى الغضب . فالنظر المنفى هنا نظر خاص . وهاتان الكنايتان يجوز معهما إرادة المعنى الحقيقى ([37]) وفى مجئ هذا الوعيد عقب الصلة وهى (...يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ...) الآية إيذان بأن من شابههم فى هذه الصفات فهو لا حق بهم حتى ظن بعض السلف أن هذه الآية نزلت فيمن حلف يميناً باطلة " ([38]) أما قوله : (...وَلَا يُزَكِّيهِمْ ... ) أى ولا يثنى عليهم , أو لا يزكيهم من الذنوب والأدناس , بل يأمر بهم إلى النار (...وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ([39])

فأتى هنا بذكر العقاب الذى يتناسب مع سوء صنيع اليهود . وهى شاملة لكل من استبدل بعهد الله , وما أمر به تعالى , وما يلزم الوفاء به ثمناُ قليلاً . وفى ذلك يقول الألوسى : " ولا مانع من تعدد سبب النزول [ أى فى اليهود وبائع السلعة ] كما حققوه . والمراد بـ " يشترون " يستبدلون , وبـ " العهد " أمر الله تعالى وما يلزم الوفاء به . وقيل ما عهده إلى اليهود فى التوراة من أمر النبى , وقيل ما فى عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد للحق والإيمان ... ووصف ذلك بالقلة لقلته فى جنب ما يفوتهم من الثواب , ويحصل لهم من العقاب " ([40])

فكون الآية نازلة فى شأن اليهود , ومن بعدهم تبع لهم فيما يبدو لى هو ما يتناسب مع السياق والسباق ؛ فما قبلها من الآيات تناول الحديث عن أهل الكتاب فى مواضع متعددة بداية من مطلع السورة من أول قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ) [ آل عمران : 3] وقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) [ آل عمران :19, 20 ] وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) [ آل عمران : 23- 25 ] وبعد ذلك جاء الحديث عن اصطفاء آدم , ونوح , وآل إبراهيم , وآل عمران على العالمين . وذلك فى قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [ آل عمران : 33 ] ثم جاء الحديث بعد ذلك عن مريم , وعبادتها , وحملها بعيسى عليه السلام , ورسالته , ومعجزاته , وكونه مصدقاً لما بين يديه من التوراة ,وذلك إلى الآية (50), وما كان من شأنه مع اليهود , ورفع الله له , وشأنه عند الله , ودعوة النبى صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب إلى المباهلة فى شأن عيسى عليه السلام , وذلك إلى الآية (61) , وبعد ذلك دعوة أهل الكتاب إلى الكلمة السواء ثم بيان ما يتمناه أهل الكتاب من ضلال المؤمنين , وذلك إلى الآية (69) , وبعد ذلك حال اليهود فى الوفاء بالحقوق , وذلك عند قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) ) ثم بعد ذلك الآية موضوع البحث . وما بعدها حديث عن تحريف أهل الكتاب وليهم لألسنة به , وذلك فى قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ) إلى قوله تعالى : (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) ) إلى أن نصل إلى قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) )

ويلاحظ من خلال الآيات السابقة ارتباط النظم بسبب النزول , فما قبل الآية موضوع البحث جاء الحديث فيه عن أهل الكتاب متدرجاً فى أكثر من موضع كما سبق إلى أن وصل الى الكلام على ليهم للكتاب , وابتغائهم ديناً غير الإسلام مع إيمان المؤمنين بهذا الدين , وإقرار النبى به وبمن سبقه من الأنبياء كما سبق فى الآيات من (83 - 85 ) , وهكذا يسير النظم فى اسجام والتحام وتدرج . ولا نشعر أن سبب النزول خارج عن سياق الكلام ونظم الآيات , بل نراه نسيج واحد من أوله إلى آخره ؛ ولذلك نلاحظ أن ماجاء فى آخر الآية موضوع البحث من الحديث عن العذاب الذى ينتظرهم إنما جاء هذا الوعيد بما فيه من ألوان العذاب ليتناسب مع حالهم وسوء صنيعهم لما فعلوه بعدما بين الله لهم الكتاب على أيدى رسله , فطالما أعرضوا , وقتلوا الأنبياء , وحرفوا وبدلوا كتب السماء , فجاء فى هذه الآية بصنوف وألوان من العذاب تتناسب مع حالهم السابقة .

وكون هذه الآية نزلت في أهل الكتاب , وما بعدهم تبع لهم هو ما مال إليه أبو السعود حيث قال: " فسبب النزول فيها في أبى رافع , ولبابة بن أبى الحقيق , وحيى بن أخطب , حرفوا التوراة , وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأخذوا الرشوة على ذلك . وقيل : نزلت فى الأشعث بن قيس حيث كان بينه وبين رجل نزاع فى بئر , وقيل فى رجل أقام سلعة فى السوق " ([41]) وهو ما مال إليه أيضاً سيخ زادة فى حاشيته على البيضاوى حيث يقول : " نزلت فى اليهود لما حرفوا نعت النبى صلى الله عليه وسلم فى التوراة ..." ([42]) ونقل الأقوال الأخرى بعد ذلك .

وهو ما ذهب إليه أيضا البقاعى كما يفهم من كلامه حيث يقول : " فالقصد من السورة التوحيد وإبطال ما ادعاه النصارى فى عيسى , والرد على أهل الكتاب , ومما يدل على ان القصد بها التوحيد تسميتها بـ آل عمران " وعن الآية موضع البحث يقول : " ولما كانت النفوس نزاعة إلى الخيانة , رواغة عن مضائق الأمانة , وكانت الخيانة تجر إلى الكذب بسط فى الإنذار فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ) أى يلجون فى أن يأخذوا على وجه العوض (بِعَهْدِ اللَّهِ ) أى الذى عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول الذى عاهدهم على الإيمان به , وذكر صفته للناس , وهو سبحانه أعلى و أعز من من كل شئ , فهو محيط بكل شئ قدرة وعلماً (وَأَيْمَانِهِمْ ) أى التى عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل بما دل عليه العقل (ثَمَنًا قَلِيلًا ) فى الدنيا (أُولَئِكَ ) أى البعيدو الرتبة فى الدنيا ( لَا خَلَاقَ ) أى نصيب ( لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ ) أى لبيعهم له بنصيب الدنيا ( وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ) أى الملك الأعظم استهانة بهم وغضباً عليهم بما انتهكوا من حرمته " ([43])

ومن ذلك قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ) [ التوبة : 58 ] وهذه الآية يرتبط فيه سبب النزول ببلاغة النظم تمام الارتباط .

فسبب نزولها ما رواه البخارى ومسلم عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً , إذ جاءه ذو الخويصرة التميمى فقال : أعدل . فقال : " ويلك من يعدل إذا لم أعدل ؟ " فنزلت (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ) الآية ([44])

وسبب النزول هنا جاء منسجماً مع تعبير الآية تمام الانسجام ([45]) فالتعبير بـ " اللمز " هنا مما يناسب حال هذا المنافق العائب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قسمة الصدقات , ولقد كان من المنافقين الأعراب . فاللمز كما قال العلماء : هو العيب , والطعن . واللماز : العياب . واللمز : الاغتياب , وتتبع المعاب , ويكون فى الوجه . وأصله الإشارة بالعين . وأصل معناه الدفع . ([46]) فاللمز ينطبق على صفات المنافقين تمام الانطباق , حيث كانوا يعيبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قسمته للصدقة , ويطعنون عليه فى وجهه , ويحاولون أن يتتبعوا المعايب كما تسول وتصور لهم أنفسهم أن هناك معايباً , فلقد كانوا ينظرون إلى فعل النبى صلى الله عليه وسلم بعين السخط لا الرضا ؛ ومن ثم جاء التعبير عن اللمز بصيغة المضارع إشارة إلى تجدد هذا اللمز منهم عند كل موقف فيه قسمة للمال ؛ لأنهم أحرص الناس على الدنيا ؛ ولذلك قال بعدها : (...فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا ...) ولكن رضاهم هو الرضا العابر لا رضا النفوس القريرة المطمئنة , حيث عبر عن رضاهم بالجملة الفعلية إشارة إلى عدم ثبوته ([47]) كما جاء التعبير عن السخط بالجملة الاسمية لأنه ثابت وملازم لهم . وقرنه بـ " إذا " الفجائية للإشارة إلى سرعة مفاجأتهم بالسخط , وعدم تأخيره , ودلت " إذا " الفجائية على أن سخطهم أمر يفاجئ العاقل حين يشهده ؛ لأنه يكون فى غير مظنة سخط , وشأن الأمور المفاجئة أن تكون غريبة فى بابها ([48]) فغاير سبحانه بين جوابى الجملتين إشارة إلى أن سخطهم ثابت لا يزول ولا يفنى بخلاف رضاهم ([49])

ولنتأمل كيف صور القرآن الحالة النفسية لهؤلاء المنافقين الساخطين الذين يظهر نفاقهم , وحقدهم , وسخطهم فى مواقف المال , والدنيا ؛ حيث إنها منتهى آمالهم , ومسرح نظرهم ([50]) وتأمل كيف جمع القرآن الكريم بين الرضا والسخط تصوير موقفهم وهم بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم . وهذه حال المنافقين فى كل زمان ومكان , فهم لا هم لهم ولا حظ إلا المنفعة الدنيوية التى تجلب رضاهم , وسعادة نفوسهم , وقرار عيونهم .

أما عن علاقة هذه الآية بما قبلها , فهى وثيقة الصلة بها , ومناسبة لها تمام المناسبة " فإنه لما قرر حال من يتخلف عن الجهاد – وربما بذل ماله فيه افتداءً – شرع فى ذكر من يشاركه فى الإنفاق والنفاق , ويخالفه . فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ) الآية أى يعيبك فى ستر وخفاء " ([51])

وهذا يتفق أيضاً مع المقاصد العامة للسورة فى حديثها عن المنافقين , فمن أسمائها : " الفاضحة" ؛ لأن من افتضح كان أهلاً للبراءة منه , ومن أسمائها " البَحوث " ؛ لأنه لا يبحث إلا عن حال البغيض , و " المثيرة , والحافرة , والمخزية , والمهلكة , والمشردة , والمدمدمة ؛ لأنه لا يبعثر إلا حال العدو ... , والمقشقشة , وهو مضاعف القش الذى معناه الجمع ؛ لأنها جمعت أصناف المنافقين " ([52]) وقال الزمخشرى : " وهى تقشقش من النفاق أى تبرئ منه , وتبعثر عن أسرار المنافقين , تبحث عنها وتثيرها , وتحفر عنها , وتفضحهم , وتنكل وتشرد بهم , وتخزيهم , وتدمدم عليه " ([53]) والمنقرة حيث نقرت عما فى قلوب المشركين , والعذاب وكان عمر رضى الله عنه إذا ذكر له سورة براءة فقيل سورة التوبة قال : " هى إلى العذاب أقرب , ما كادت تقلع عن الناس , حتى ما كادت تبقى منهم أحد " ([54]) أما عن علاقتها بما بعدها , فلقد بينت الآية بعدها أن الصدقة إنما تكون تكون للأصناف الثمانية المذكورة , فهى أحق الناس بالزكاة .

هذا ولقد امتد لمز هؤلاء المنافقين الساخطين إلى المؤمنين المطوعين بالصدقات أيضاً , حيث يقول تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ التوبة : 79 ] وسبب نزول هذه الآية مرتبط ببلاغة النظم تمام الارتباط , وملتحم مع السياق تمام الالتحام . فسبب نزولها ما رواه الشيخان عن ابن مسعود لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا , فجاء رجل فتصدق بشئ كثير , فقالوا : مراءٍ , وجاء رجل فتصدق بصاع , فقالوا : إن الله لغنى عند صدقة هذا , فنزل (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ... ) ([55])

إن اللمازين هنا هم من جنس اللمازين هناك ؛ ولذلك عرفهم بالاسم الموصول , وكأنه يشير إلى أن هؤلاء من رحم هؤلاء , وعلى شاكلتهم , فأولهم ذو الخويصرة الذى عاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قسمة الصدقة , وهؤلاء عابوا على المطوعين فى دفعهم للصدقة . وجاء التعبير بـ " المطوعين " مناسباً للسياق , وسبب النزول ([56])

فهؤلاء يعيبون على من يبذلون أموالهم تطوعاً وزيادة على المفروض عليهم ؛ لأن نفوسهم شحيحة بالخير , يعيبون عليهم الصدقات التى يخرجونها قليلها وكثيرها ([57]) . واللمز هناك فى الآية السابقة فى قسمتها , وهنا فى صفة آدائها , ومقدارها , والنية فيها ([58]) ولذلك عطف على (... الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ... ) وهو من عطف الخاص على العام ([59]) وتعبير القرآن عنهم بـ (... الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ...) تعبير دقيق مصور لحال هؤلاء , ومدى سعيهم فى الإنفاق حتى ولو لم يكن لهم شئ من المال إلا ما يسد رمقهم , ويدفع أودهم ([60])؛ ولذلك عبر عنهم بـ " المؤمنين " مقابلة لهؤلاء المنافقين , فهم ما دفعهم للتطوع بالصدقة فى القليل والكثير إلا الإيمان بالله الذى هو اليقين والتصديق بثوابه وجزيل عطائه سبحانه .

ولقد صور فعل هؤلاء المنافقين تصويراً حياً كأننا نراه , فلقد جاء عيبهم سريعاً بعد ما رأوا من المؤمنين المطوعين سرعة المبادرة إلى الصدقة بالقليل والكثير , فجاء بـ " الفاء " التى دخلت على الفعل المضارع فى قوله : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ) إشارة إلى سرعتهم فى اللمز , والعيب , والسخرية , والاستهزاء , وإلى تجدد ذلك الفعل منهم , واستمراره , وتكرره , وهو ما ينسجم مع حال هذه النفوس الشحيحة بالخير , المستكثرة للبر من المؤمنين لربهم ؛ ولذلك كان الجزاء من جنس العمل فـ (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ... ) أى جازاهم على سخريتهم , فالجملة خبرية , والتعبير بذلك للمشاكلة . وإنما اختلفت اسمية (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) , وفعلية (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ... ) ؛ لأن السخرية فى الدنيا , وهى متجددة , والعذاب فى الآخرة , وهو دائم ثابت , والتنوين فى العذاب للتهويل والتفخيم ([61])

ومن ذلك قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) [ الحج : 11] ففى سبب نزولها أخرج البخارى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : " كان الرجل يقدم المدينة فيسلم , فإن ولدت امرأته غلاماً , ونُتِجَت خيله قال : هذا دين صالح , وإن لم تلد امرأته ذكراً , ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء , فأنزل الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ) الآية ([62])

وهذه الآية الكريمة متفقة مع سبب النزول تمام الاتفاق , ومنطبقة على حال هؤلاء الشاكين المترددين تمام الانطباق . فلقد نزلت فى شأن قوم من الأعراب ([63]) لا ثبات لهم ولا قرار لهم فى الدين , وليس لهم من هم إلا ملء بطونهم , وما يستكثرون به من متاع الدنيا الزائل , لا رغبة فى الإسلام , ولا حرصاً على رضا الرحمن , ولا حباً فى الاهتداء إلى الخير والصواب .

ولقد جاءت هذه الآية الكريمة مجسدة , ومصورة لحال جشعهم , ولهفتهم على الدنيا , ومبينة لمدى الشك والتردد الكامنين فى نفوسهم , والتحير والقلق فى خطرات قلوبهم . فعبادتهم هشة , وتدينهم رقيق ضعيف , لا ثبات لهم على حق , ولا رسوخ لهم فى الإيمان ؛ حيث يتزعزع إيمانهم عند أدنى بلاء , ويختل ميزانهم عند أى فتنة .

وما أروع التعبير القرآنى الذى وصف , وصور , وجسد حال هؤلاء كأننا نشاهدهم رأى العين . فقوله تعال : ( وَمِنَ النَّاسِ ) إشارة إلى أنهم لا رصيد لهم من الإيمان , ولا حظ لهم من الإسلام , فهم كسائر الناس الذين لا يوصفون بإيمان ولا إسلام , وفى ذلك يقول البقاعى : " عبر بـ " الناس " الذى مدلوله الاضطراب والتردد " ([64]) وهم على خلاف من ذكر الله بعدهم فى قوله : (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) [ الحج : 14 ]

وجاء التصوير الدقيق لحالهم فى الدين , وموقعهم من الإيمان والعبادة بأنهم على حرف . والمقصود هنا هو الشك , والتردد , والتحير الذى ينتابهم , وليس هناك أدق فى التعبير عن شكهم وترددهم مما جاءت به الآية من التعبير بـ " الحرف " ؛ لأن هذا التعبير الذى جاء نكرة يصور حالتهم النفسية تصويراً دقيقاً كاملاً بما تشتمل عليه صدورهم من الحيرة , والشك , والتردد , والخوف , والضعف فى اليقين . " فهو تمثيل لحال المتردد فى عمله يريد تجربة عاقبته بحال من يمشى على حرف جبلٍ أو وادٍ , فهو متهيئ لأن يزل عنه إلى أسفله , فينقلب , أى ينكب " ([65])

" فالحرف هو طرف الشئ وجانبه سواء كان مرتفعاً كحرف الجبل والوادى , أم كان مستوياً كحرف الطريق . ويطلق على طرف الجيش , ويجمع على طِرَف بوزن عنب " ([66]) " فهؤلاء على طرف من الدين , لا فى وسطه وقلبه , وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب فى دينهم لا على سكون وطمأنينة , كالذى يكون على طرف من العسكر , فإن أحس بغنيمة قر واطمأن , وإلا فر وطار على وجهه " ([67])

ولذلك عبر عن حالهم بمن وقف على حرف , ولم يقل : على طرف , أو حافة , أو نحو ذلك ؛ ليشمل كل المعانى السابقة , فتكون الآية مستوعبة , وجامعة لكل أحوالهم فى الشك والتردد ([68]) قال أبو عبيدة : " كل شاك فى شئ فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم . وبيان هذا أن القائم على حرف الشئ غير متمكن منه شبه به الشاك ؛ لأنه قلق فى دينه على غير ثبات . ويوضحه قوله : (...فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ...) ([69]) " فجاءت الاستعارة التمثيلية كاشفة وموضحة لحال هؤلاء , وقوله : (...فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ...) تفسير لذلك وبيان لوجه الشبه . والمراد من الخير الدنيوى كالرخاء والعافية " ([70])

فتصوير حال الشاك والمتردد فى الدين بحال الواقف على حرف موافق للسياق والسباق تمام الموافقة . ونلاحظ دخول حرف الجر ( عَلَى حَرْفٍ ) وقد جاءت (حَرْفٍ ) نكرة لتصور مدى الاستعداد الكامل للوقوع , والسقوط فى هاوية الضلال والخسران ([71]) كما أن التعبير عما أصابه بـ " الفتنة " مما يتلاءم مع السياق . فالفتنة هنا : اضطراب الحال , وقلق البال على حدوث شر لا مدفع له , وهو مقابل الخير ([72]) . ولقد جاء السياق بعد ذلك مكملاً لمعالم الصورة إكمالاً لبيان حال هؤلاء المتذبذبين , وذلك فى قوله تعالى : (... فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ...) , " ومعنى الاطمئنان : الاستقرار فى المكان , والمقصود : استمر على التوحيد فرحاً بالخير الذى أصابه . والانقلاب : مطاوع قلبه إذا كبه , أى ألقاه على عكس ما كان عليه بأن جعل أعلاه أسفله كما يقلب القالب – بفتح اللام – فالانقلاب مستعمل فى حقيقته , والكلام تمثيل . وتفسير الانقلاب بهذا المعنى هو المناسب لقوله : (عَلَى وَجْهِهِ ) أى سقط وانكب عليه , وحرف الاستعلاء ظاهر , وهو أيضاً الملائم لتمثيل أول حاله بحال من هو على حرف " ([73])

والتعبير بـ " الانقلاب " هنا مكمل لمعالم الصورة السابقة , والمقصود به الرجوع إلى الكفر ([74]) الذى يترتب عليه خسران الدنيا والآخرة " فهم مهيئون للانقلاب ([75]) , وذلك لكونهم على شفا جرف فسقط عن ذلك الطرف من الدين سقوطاً لا رجوع له بعده إليه , ولا حركة له معه , فإن الإنسان مطبوع على المدافعة بكل عضو من أعضائه عن وجهه , فلا يمكن منه إلا بعد نهاية العجز. والمعنى أنه رجع إلى الوجه الذى كان عليه من من الكفر أو الشك رجوعاً متمكناً , وهذا بخلاف الراسخ فى إيمانه إن أصابته سراء شكر , إن أصابته ضراء حمد وصبر , فكل قضاء الله له خير .

ولما كان انقلاب هذا مفسداً لآخرته بما ناله من الوزر , وغير نافع له فى استدراك ما فاته من الدنيا كانت فذلكة ذلك قوله : (خَسِرَ الدُّنْيَا ...) أى بسبب أن ذلك لا يرد ما فاته منها , ويكون سبب التقتير عليه , وذهاب بركته " ([76])

وما أروع التعبير بقوله ( ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) حيث اجتمعات الإشارة إلى البعيد , مع ضمير الفصل ,والقصر المستفاد من تعريف المسند الذى أوحى بأن الخسران المبين انحسر فى خسرانهم . والمقصود من القصر تحقيق الخبر , ونفى الشك فى وقوعه . وضمير الفصل أكد معنى القصر فأفاد تقوية الخبر المقصود ([77]) وجاءت الإشارة إلى البعيد فى قوله (ذَلِكَ ) إشارة إى بعد هذا الخسران . فالإشارة هنا منسجمة مع الصورة الحسية التى صورت حالهم بمن وقف على شفا جرف هار, وانقلب على وجهه فوقع فى هوة سحيقة بعيدة القاع . فكل جزئية من جزئيات النظم قد ساعدت فى إكمال معالم الصورة الشائقة الرائعة لحال هؤلاء الناكثين على أعقابهم .

أما عن مناسبتها لما قبلها فى النظم , فإنه لما بين قسمى المصارحين بالكفر الكثيف والأكثف صريحاً , وأفهم تامؤمن المخلص , عطف على ذلك المذبذب فقال : ( وَمِنَ النَّاسِ ) ([78]) ولما بين حال المظهرين للشرك المجادلين فيه عقبه بذكر المنافقين ([79]) وما بعد الآية مناسبٌ لها فى السياق والنظم وملتحم مع السب تمام الالتحام ؛ حيث جاء الحديث عن ضلال هؤلاء , وضلال من يدعونه من دون الله , وأنه لا يضرهم ولا ينفعهم , بل ضره أقرب من نفعه . وهو ما ينسجم مع مع حال المنافقين المذبذبين المنقلبين على أعقابهم إلى الكفر , خسر الدنيا والآخرة . ثم جاء الحديث عن المؤمنين الثابتين الراسخين , وما أعد الله لهم من الجنات التى تجرى من تحتها الأنهار فى قوله (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) [ الحج : 14] وهكذا يمضى السياق القرآنى قد ارتبط فيه سبب النزول بالنظم , وانسجم مع السياق والسباق تمام الانسجام , مع ما اشتمل عليه من التصوير البارع , والوصف الدقيق الجامع لحال هؤلاء المنافقين الخاسرين .

وهؤلاء الذين صورت الآية حالهم من المنافقين فى المدينة . فسورة الحج من السور المدنية كما ذكر جمهور العلماء ([80]) وإن كان فيها من المكى والمدنى . فهى من أعاجيب سور القرآن كما قال عنها هبة الله بن سلامة : " هى من أعاجيب سور القرآن ؛ لأن فيها مكياً , ومدنياً , وحضرياً , وسفرياً , وحربياً , وسلمياً , وليلياً , ونهارياً , وناسخاً , ومنسوخاً . فأما المكى فمن رأس الثلاثين إلى آخرها . وأما المدنى فمن رأس خمس وعشرين إلى رأس ثلاثين منها . وأما الليلى فمن أولها إلى رأس خمس آيات . وأما النهارى فمن رأس خمس إلى رأس تسع . وأما السفرى فمن رأس تسع إلى اثنتى عشرة . وأما الحضرى فإلى رأس العشرين " ([81])

ومن ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) [ النور:6 – 9] فلقد أخرج البخارى من طريق عكرمة عن ابن عباس : أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبى صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء , فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : " البينة أو حد فى ظهرك " , فقال : يا رسول الله , إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق ياتمس البينة ؟ فجعل النبى صلى الله عليه وسلم يقول : " البينة أو حد فى ظهرك " , فقال هلال : والذى بعثك بالحق إنى لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهرى من الحد , فنزل جبريل , فأنزل الله عليه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ) فقرأ حتى بلغ : (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ([82])

وأخرج الشيخان , وغيرهما عن سهل بن سعد قال : جاء عويمر إلى عاصم بن عدى فقال : اسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله, أيقتل به ؟ أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم , فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل فلقيه عويمر فقال ما صنعت ؟ قال : ما صنعت , إنك لم تأتنى بخير . سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب السائل , فقال عويمر : فوالله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه , فسأله فقال : " إنه أنزل فيك وفى صاحبتك " الآيات الحديث ([83])

ولقد اختلفت الأئمة فى سبب النزول فى هذه الآيات , فمنهم من رجح أنها نزلت فى شأن عويمر , ومنهم من رجح أنها نزلت فى شأن هلال , ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال , وصادف مجئ عويمر أيضاً , فنزلت فى شأنهما معاً , وإلى هذا جنح النووى وتبعه الخطيب فقال : لعلهما اتفق لهما ذلك فى وقت واحد . قال ابن حجر : " ولا مانع أن تتعد القصص ويتحد النزول ... ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال فلما جاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه النبى صلى الله عليه وسلم بالحكم ؛ ولهذا قال فى قصة هلال : فنزل جبريل , وفى قصة عويمر : " قد أنزل الله فيك ..." ويؤيده حديث أنس عند أبى يعلى قال : " أول لعان كان فى الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته " الحديث , وجنح القرطبى إلى تجويز نزول الآية مرتين . وكانت هذه القصة فى شعبان سنة تسع من الهجرة منصرف النبى صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة كما قال القرطبى " قال ابن عاشور : " والتحقيق أنهما قصتان حدثتا فى وقت واحد أو متقارب "([84]) ولقد نزلت هذه الآيات الكريمات فى أوائل سورة النور , وهى آيات منسجمة مع سبب النزول , ومع المقصد العام للسورة , ومع السياق تمام الانسجام .

فسورة النور من السور المدنية , " ومقصودها ذكر أحكام العفاف والستر " ([85]) ," ومقصودها مدلول اسمها المودع قبلها المراد منه أنه تعالى شامل العلم اللازم منه تمام القدرة , اللازم منه إثبات الأمور على غاية الحكمة , اللازم منه تاكيد الشرف للنبى صلى الله عليه وسلم , اللازم منه شرف من اختاره لصحبته على منازل قربهم واختصاصهم به , اللازم منه غاية النزاهة والشرف والطهارة لأم المؤمنين عائشة رضى الله عنها التى مات النبى صلى الله عليه وسلم وهو عنها راض وماتت هى رضى الله عنها صالحة محسنة , وهذا هو المقصود بالذات , ولكن إثباته محتاج إلى مقدمات " ([86]) وقال ابن العربى : " فيها حجج وتوحيد , وفيها دلائل الأحكام , والكل آيات بينات , حجج العقول ترشد إلى مسائل التوحيد , ودلائل الأحكام ترشد إلى وجه الحق , وترفع غمة الجهل , وهذا شرف السورة " ([87])

وسورة النور أنارت طريق المؤمنين , وبصرتهم بالهدى والصواب فى معاملة الزناة , وفى أحكام الملاعنة , وفى حادثة الإفك , وفى التعامل مع محبى الفتن والشائعات , وفى آداب الاستئذان وفى غض البصر والعفاف , وغير ها من الأحكام .

والآيات موضوع سبب النزول متفقة مع المقصد العام للسورة , ومع سبب النزول الذى جاءت بصدده , فنالت المناسبة من الجهتين , فتمت المناسبة على أكمل الوجوه . فسواء كان سبب النزول واقعة الملاعنة الثابتة فى الصحيح لعويمر العجلانى , أو لهلال بن أمية على ما مضى من الخلاف السابق , فذلك لا يؤثر فى سبب النزول من ناحية ارتباطه بنظم القرآن ؛ لأن الواقعتين فى المعنى واقعة واحدة , ويجمع بينهما بطرق الجمع التى سبق ذكرها .

ومما تجدر الإشارة إليه أن تعدد القصص , واتحاد النزول لمن أبرز الأدلة على الإعجاز , ودقة النظم وروعته , وإحكامه ؛ حيث يكون نزول الآيات فى هذه الحال عند احتياج الناس إلى النور الذى يكشف لهم عن الحكم فيما من أحداث , ويبصرهم بأمور دينهم , فيكون القرآن بذلك ملتصقاً تمام الالتصاق بحياة الناس وشؤونهم , وما يدور فى نفوسهم , وفى خلجات صدورهم ([88])

ولقد جاءت الآيات موضوع البحث عقيب الحديث عن رمى المحصنات , " وهو تخصيص للعمومين اللذين فى قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ... ) [ النور : 4 ] ([89]) فإن من المحصنات من هن أزواج لمن يرميهن فخض هؤلاء الذين يرمون أزواجهم من حكم قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) الخ إذ عذر الأزواج خاصة فى إقدامهم على القول فى أزواجهم بالزنى إذ لم يستطيعوا إثباته بأربعة شهداء " ([90]) " فلما بين الله سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنى , وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء ... ذكر هنا ما هو فى حكم الاستثناء من ذلك , وهو قذف الزوجات فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة فى الآية ؛ لأن فى تكليف الزوج إحضار الزوج إعناتاً وإحراجاً , ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لم يجد مخلصاً من ضيقه " ([91])

ولقد جاءت الآيات المحكمة بنظمها المعجز منسجمة مع الوقائع والأحداث تمام الانسجام , وجاءت مبينة وجوه التصرف فى مثل هذه المواقف الصعاب . جسدت الحالة النفسية التى يكون عليها الأزواج فى مثل هذه المواقف كما وضعت المخرج والعذر فى هذه المآزق للأزواج ([92]) وجاء تعبيرها موافقاً للغرض العام , والناحية النفسية والاجتماعية لكل الناس . ففى الملاعنة وفق ما قررته الآية راحة للزوج الموتور , ونجاة ومخرج للزوجة المتهمة . وفى جعل اليمين شهادة إقرار أمام المجتمع ليرتاح كل من الزوجين فى مثل هذا الموقف العصيب . وإلى الآيات لننظر كيف التحم فيها النظم مع سبب النزول , وكيف صورهأدق تصوير .

فلقد بدأت الآية بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ...) حيث صورت اتهام الرجل لزوجته بالزنى بـ " الرمى " فهو يدفع فى وجهها بالاتهام بالزنى بقوة حيث لا يملك من الشهود ما يثبت دعواه عليها , كما ان فى هذا الاتهام إيلاماً للزوج يشبه ألم الرمى فى تأثيره ؛ لأنه اتهام فى أعز ما تملك , وهو شرفها وعرضها ([93]) ويشهد لذلك سبب النزول كما فى قصة هلال بن أمية حين قال لما طالبه النبى صلى الله عليه وسلم بالبينةة أو الحد فى ظهره : " والذى بعثلك بالحق إنى لصادق , ولينزلن الله ما يبرئ ظهرى من الحد " الحديث ولذلك جعل له بعد ذلك الشهادات الأربع مقام الشهود إنه لمن الصاقين (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) " وتسمية القرآن أيمان اللعان شهادة يومئ إلى أنها لرد دعوى , وشرط ترتب الدعوى على آثار أن تكون محققة ... فلما تعذر على الأزواج إلفاء الشهادة فى مثل هذا الحال , وعذرهم الله فى الادعاء بذلك ولم يترك الأمر سبهللاً , ولا ترك النساء مضغة فى أفواه من يريدون التشهير بهن من أزواجهن لشقاق أو غيظ مفرط , أو حماقة كلف الأزواج شهادة لا تفسر عليهم إن كانوا صادقين فيما يدعون . فأوجب عليهم الحلف بالله أربع مرات لتقوم الأيمان مقام الشهود الأربعة المفروضين للزنا فى قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ... ) وسمى اليمين شهادة لأنه بدل منها , فهو مجاز بعلاقة الحلول الاعتبارى , وأن صيغة الشهادة تستعمل فى الحلف كثيراً , وهنا جعلت بدلاً من الشهادة , فكأن المدعى أخرج من نفسه أربعة شهود هى تلك الأيمان الأربع " ([94])

ولما كان الرجل رامياً للمرأة بهذه التهمة الشنيعة التى عبر عنها بالرمى كناية عن القذف ([95]) واستعارة للشتم بفاحشة الزنا ([96]) عبر عن ما يدفع عنها الحد بما يناسب هذه الصورة الدقيقة , وهو الدرء حيث قال : (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ ...) والدرء هو الدفع بقوة , واستعير هنا للإبطال ([97]) ونلمح فى اختيار الفعل(يَدْرَأُ ) الذى جاء بصيغة المضارع ليدل على تطلب الحيلة لدفع الحد عن النفس([98]) فكما أن المرمى بسهم أو حجر يميل إلى جانب من الجوانب ليدفع عن نفسه ما رمى به فكذلك المرأة المتهمة بالزنا تدفع عن نفسها التهمة التى رميت بها . وهنا تناسبت الصورة , واكتملت أجزاؤها بين الرمى من الرجل , والدفع من المرأة إشارة إلى اجتهاد كل منهما فى هدفه . فالرجل يتهما , وهى تدفع عن نفسها . وهى صورة منسجمة مع الحالة النفسية بكل من الزوجين تمام الانسجام , ومعبرة عن موقف كل منهما أدق تعبير .

هذا ولقد عبر بـ " الغضب " ([99]) على المرأة فى الشهادة الخامسة , و " اللعن " على الرجل فيها , ووراء ذلك أسرار دقيقة . فلقد خصها بـ " الغضب " تغليظاً عليها لكونها أصل الفجور ومنبعه بخيلائها , وإطماعها ؛ ولذلك كانت مقدمة فى الجلد ([100]) والغضب أشد من اللعنة ؛ لأن اللعنة مطلق الطرد من الرحمة , والغضب : الطرد من الرحمة مع إرادة الانتقام ؛ ولأن النساء يكثرن اللعن فى العادة فربما تجترئ على التفوه به لسقوط وقعه فى قلوبهن بخلاف الغضب ([101]) " كما أن الغضب أبلغ من اللعن الذى هو الطرد ؛ لأنه قد يكون بسبب غير الغضب. وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يعضد الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق معذور فيما رماها به , وهى تعلم صدقه فيما رماها به ؛ ولهذا كانت الخامسة فى حقها أن غضب الله عليها . والمغضوب عليه هو الذى يعلم الحق ثم يحيد عنه " ([102]) فهى مادة الفساد , وهاتكة الحجاب , فكان عليها من التغليظ أشد مما على الرجل([103]) ولقد ختمت الآيات بما يتناسب مع هذه الأحكام تمام المناسبة .

والآية موضوع سبب النزول متفقة مع ما بعدها تمام الاتفاق , ومرتبطهة بها تمام الارتباط فكما يقو الرازى : "واعلم أنه سبحانه لما بين حكم الرامى للمحصنات والأزواج على ما ذكرنا , وكان فى ذلك من الرحمة والنعمة ما لا خفاء فيه ؛ لأنه تعالى جعل باللعان للمرء سبيلاً إلى مراده , ولها سبيل إلى دفع العذاب عن نفسها , ولهما سبيل إلى التوبة والإنابة ؛ فلأجل هذا بين تعالى بقوله : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ...) [ النور : 10 ] عظم نعمه فيما بينه من هذه الأحكام , وفيما أمهل وأبقى , ومكن من التوبة . ولا شبهة فى أن فى الكلام حذفاً ؛ إذ لابد من جواب إلا أن تركه يدل على أمر عظيم لا يكتنه , ورب مسكوت عنه أبلغ من منطوق " ([104])

وإذا تأملنا فى الفاصلة التى ختمت بها الآية وجدناها تتفق مع السياق والسباق تمام الاتفاق , وتتصل بسبب النزول تمام الاتصال فلقد ختمت الآية بقوله (...وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) حيث يتوب على من تاب من ذنبه , وفى مثل هذا الموقف العصيب الذى يتطلب التوبة ممن أسرف على نفسه ووقع فى المعصية وقد ستره الله عز وجل , كما أنه سبحانه قد قضى بحكمته بما يستر على الزوجة فى هذا الشأن , ويحفظ عرضها من الذم , كما قضى بما يريح الزوج الغاضب , ويحفظ له كرامته دون أن يكون هناك تشهير أو تعيير أو قذف يكون سبة فى رقبة صاحبه بين الناس , فأوجد المخرج للزوجين كليهما من هذه الضائقة بحكمته الدقيقة , ورحمته الواسعة , وبما شرع من أحكامه الساترة للناس .

وعن الفاصلة السابقة , وما تنطوى عايه من أسرار يقول القاسمى " وردت الفاصلة فى غير هذا الموضع بـ (...تَوَّابٌ رَحِيمٌ )([105]) فعلام فصلت هنا بـ ( تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) مع أن التوبة مع الرحمة فيما يظهر ؟ والجواب : أن الله عز وجل حكم بالتلاعن على الصورة التى أمر بها , وأراد بذلك ستر هذه الفاحشة على عباده , وذلك حكمة منه . ففصلت هذه الآية بـ ( تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) إثر بيان الحكم جمعاً بين التوبة المرجوة من صاحب المعصية , وبين الحكمة فى سترها على تلك الصورة . فافهم ذلك أشار له ابن الأثير فى المثل السائر " ([106]) ويقول ابن عاشور عن هذه الآية إنها " تذييل لما من الأحكام العظيمة المشتملة على التفضل من الله والرحمة منه , والمؤذنة بأنه تواب على من تاب من عباده , والمنبئة بكمال حكمته تعالى إذ وضع الشدة موضعها والرفق موضعه , وكف بعض الناس عن بعض , فلما دخلت تلك الأحكام تحت كل هذه الصفات كان ذكر الصفات تذييلاً ... و حذف جواب (َلَوْلَا) للتفخيم والتعظيم , وحذفه طريقة لأهل البلاغة , وقد تكرر فى هذه السورة ... والتقدير : ولولا فضل الله عليكم فدفع عنكم أذى بعضكم لبعض بما شرع من الزواجر لتكالب بعضكم على بعض , ولولا رحمة الله بكم فقدر لكم تخفيضاً مما شرع من الزواجر فى حالة الاضطرار والعذر لما استطاع أحد أن سكت على ما يرى من مثار الغيرة , فإذا باح بذلك أخذ بعقاب , وإذا انتصف لنفسه أهلك بعضاً أو سكت على ما مثله يغضى , ولولا أن الله تواب حكيم لما رد على من تاب فأصلح ما سلبه منه من العدالة وقبول الشهادة " ([107])

فالآية التالية للآيات موضع سبب النزول , وما بعدها متناسبة مع السياق والمعنى أروع مناسبة وهكذا تتراحم الآيات , وتتآلف المعانى فيما بينها , وتتدفق فى وحدة فريدة , وتناغم سلس دقيق, وذلك آية من آيات الإعجاز فى النظم القرآنى , فكل آية من آياته حبة من لؤلؤ فى عقد نظيم (...وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) [ النساء 82 ]

ومن ذلك قوله تعالى : (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ) [ فصلت : 22] وسبب نزول الآية ما أخرجه الشيخان , وأحمد , والترمذى , وغيرهم عن ابن مسعود قال : " اختصم عند البيت ثلاثة نفر : قرشيان وثقفى , أو ثقفيان وقرشى . فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما نقول ؟ فقال الآخر : يسمع إن جهرنا , ولا يسمع إن أخفينا , وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا فأنزل الله : ( وَمَا كُنْتُمْ تسْتَتِرُونَ ) الآية . وفى رواية مسلم عن عبد الله : كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة أنفار كثير شحم بطونهم , قليل فقه قلوبهم , قرشى وختناه ثقفيان , أو ثقفى وختناه قرشيان , فتكلموا بكلام لم أفهمه ... وذكر الكلام السابق إلى أن قال : فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه ([108])

وهذه الآية الكريمة فى سورة فصلت , وهى من السور المكية . والآية وثيقة الصلة بسبب النزول لمن تأمل . فهؤلاء المشركون الذين كانوا يستخفون بكلامهم عند بيت الله , ويتجاذبون أطراف الحديث حول سماع الله لكلامهم , غافلين عن أن الله سبحنه فوق علمه بما يسرون وما يعلنون سيجعل عليهم شاهداً من جوارحهم , وجلودهم ([109]) بما كانوا عاملين .

جاءت الآية فى هذا السياق كاشفة عن ما فى نفوس هؤلاء من ظنون حول علم الله بأعمالهم وكلامهم , وعن ما يدور فى خلجات صدورهم من شكوك حول سماع الله لكلامهم وحديثهم . وهذا أمر مبنى على إنكارهم للبعث والجزاء يوم القيامة . ومما هو معلوم أن الآيات التى نزلت على أسباب محددة لا تقتصر عليها , وإنما هى غظة وعبرة للناس فى كل زمان ومكان , فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما كما هو معوم ومقرر . فهى شاملة لكل من كان على حال هؤلاء ممن يظن هذا الظن حول علم الله بما أسر من كلامه وأخفى .

وظاهر السياق حين نربط الآية بسبب النزول يوحى بأن الآية فى موضوع مختلف عما قبلها وما بعدها , ولكن عند التأمل الدقيق يتضح لنا مدى الارتباط والتناسب بينها وبين ما قبلها وما بعدها . فالسورة مكية كما سبق , وسبب النزول فيها يوضح موقفاً لأناس من المشركين فى ذلك الوقت قبل أن يسلم بعضهم . ومن هنا اختلفت عبارات العلماء حول ربطها بما قبلها وما بعدها . فقال ابن عطية : " يشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة , فالآية مدنية , ويشبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلاً بها عن إخبار عبد الله إياه " ([110])

"وكلامه الأول مخالف لما جزم به هو وغيره من المفسرين من أن السورة كلها مكية ([111]) وأحسن ما فى كلامه هو الطرف الثانى وهو أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلاً بها فإن ذلك يؤول قول ابن مسعود فأنزل الله تعالى الآية , ويبين وجه قراءة النبى إياها عندما أخبره ابن مسعود بأنه قرأها تحقيقاً لمثال من صور معنى الآية , وهو أن مثل هذا النفر ممن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم , وذلك قاض بأن هؤلاء النفر كانوا مشركين يومئذ , والآية تحق على من مات منهم كافراً مثل ربيعة بن أمية بن خلف . فيجوز أن يكون نزولها صادف الوقت الموالى لنزول التى قبلها , ويجوز أن تكون نزلت فى وقت آخر , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها فى موضعها هذا لمناسبة ما فى الآية التى قبلها من شهادة سمعهم وأبصارهم "([112])

وأياً كان الأمر فالآية مناسبة لحال هؤلاء المشركين الجاحدين لعلم الله بأعمالهم . ونلمح هنا فى نظم الآية مدى الروعة والمناسبة حيث أبرزت وجسدت لنا ما يدور فى نفوسهم من ظنون , وما يظنونه حول علم الله بأعمالهم التى كانوا لها عاملين .

ومن هنا اختلفت وجهات المفسرين فى تفسير ناحيتين : الأولى : من الذى يقول لهم ذلك ؟ الثانية : معنى الآية . أما عن الأولى : فلقد ذكر بعض المفسرين فى قوله تعالى :(وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) "يحتمل أن يكون من كلام الجلود ومحاورتها , ويحتمل أن يكون من كلام الله لهم , أو من كلام ملك يأمره الله تعالى " ([113]) أما عن الناحية الثانية : وهى المعنى فلقد اختلفت نظرات المفسرين فيه . فقال ابن عطية : " قوله : (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) المعنى يحتمل وجهين : أحدهما : أن يريد وما كنتم تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصى والكفر خوف أن يشهد أو لأجل أن يشهد ولكن ظننتم أن الله لا يعلم فانهملتم وجاهرتم . والمعنى الثانى : أن يريد وما كنتم تمتنعون , ولا يمكنكم , ولا يسعكم الاختفاء عن أعضائكم , والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم , ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد " . وقال ابن كثير : " أى تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم : ما كنتم تتكتمون منا الذى تفعلونه , بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصى , ولا تبالون منه فى زعمكم لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم " ([114])

والراجح ما ذكره صاحب الكشاف , وغيره من المفسرين , حيث يقول صاحب الكشاف : " والمعنى أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش , وما كان استتاركم ذلك خيفة أن تشهد عليكم جوارحكم ؛ لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم , بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً , ولكن استترتم لظنكم ( أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ) , وهو الخفيات من أعمالكم " وقال أبو السعود : " ...أى ما كنتم تستترون فى الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك كما كنتم تستترون من الناس مخافة الافتضاح عندهم , بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء رأساً (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ ) من القبائح المخفية فلا يظهر فى الآخرة ولذلك اجترأتم على ما فعلتم , وفيه إيذان بأن شهادة الجوارح بإعلامه تعالى حينئذ لا بأنها كانت عالمة بما شهدت به عند صدوره عنهم "([115])

أما عن ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها , فهى مرتبطة بهما تمام الارتباط . فما قبلها حديث عن أهل النار حين حشرهم إليها (... فَهُمْ يُوزَعُونَ ) [ فصلت : 19 ] ( أى يحبس أولهم على آخرهم , ويستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم ليتلاحقوا ويجتمعوا , وهى عبارة عن كثرة أهل النار )([116]) , ومجيئهم إليها , وشهادة سمعهم , وأبصارهم , وجلودهم عليهم , وسؤالهم لجلودهم عن سبب شهادتها عليهم , ثم الآية التى معنا , وهى أنهم ما كانوا يظنون أن تشهد عليهم ؛ لأنهم ما كانوا عالمين بذلك , وما كان استتارهم خوفاً من ذلك , ولكن ظنوا أن الله لا يعلم كثيراً مما يعملون . وما بعدها متمم لنتيجة ظنهم حيث أوردهم المهالك , وأوقعهم فى أسوأ الأحوال , فلا مفر لهم صبروا أو استعتبوا . (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ) [ فصلت : 24 ] وإن يطلبوا الرضا من الله عنهم , وأن يرجع بهم إلى ما أحبوا لم يكن لهم ذلك , فالنار مثواهم فى حال صبرهم , وفى حال جزعهم , وما هم من المعتبين إذا استعتبوا ربهم .

ونلمح هنا سر لطيف فى تخصيص الحواس المذكورة بالذكر ( السمع , والبصر , والجلود ) دون باقى الحواس , وقد أشار إلى ذلك الرازى فقال : " الحواس خمسة : السمع , والبصر , والشم , والذوق , والمس , ولا شك أن آلة اللمس هى الجلد , فالله تعالى ذكر هنا من الحواس (السمع , والبصر , واللمس ) وأهمل ذكر نوعين وهما ( الذوق , والشم ) ؛ لأن الذوق داخل فى اللمس من بعض الوجوه ؛ لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الفم , فكان هذا داخلاً فيه . فبقى حس الشم , وهو حس ضعيف فى الإنسان , وليس لله فيه من تكليف ولا أمر ولا نهى ..." ([117]) أما عن تخصيص الجلود بالسؤال , فكما يقول الشوكانى : " وجه تخصيص الجلود بالسؤال لأنها اشتملت على ثلاث حواس , فكان تأتى المعصية من جهتها أكثر "([118]) وقال الألوسى : " وأولى ما قيل من أوجه التخصيص أن المدافعة عن الجلودأزيد من المدافعة عن السمع والبصر , فإن الإنسان الواحد لوجزئ لزاد على ألف سمع وبصر , وهو يدافع عن كل جزء , ويحذر أن يصيبه ما يشينه , فكانت الشهادة من الجلود عليهم أعجب وأبعد عن الوقوع " ([119])

هذا ولقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تفسر هذه الآية فمن ذلك ما أخرجه عبد الرزاق , وابن المنذر , وابن أبى حاتم , والحاكم وصححه , والبيهقى فى البعث عن معاوية بن حيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تحشرون هاهنا وأومأ بيده إلى الشام مشاة وركباناً , وعلى وجوهكم , وتعرضون على الله وعلى أفواهكم الفدام , وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه وكتفه " وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ ) ([120]) وروى مسلم عن أنس رضى الله عنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك , فقال : " هل تدرون مما أضحك ؟ قال : قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : " من مخاطبة العبد ربه " يقول : يا رب ألم تجرنى من الظلم ؟ قال : " يقول : بلى " قال : فيقول : فإنى لا أجيز على نفسى إلا شاهداً منى . قال : فيقول : " كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً , وبالكرم الكاتبين عليك شهوداً " . قال : " فيختم على فيه , فيقال لأركانه : " انطقى " . قال : فتنطق بأعماله , ويخلى بينه وبين الكلام . قال : فيقول : بعداً لكن وسحقاً , فعنكن كنت أناضل " ([121]) وأخرج أحمد وأبو داود الطيالسى , وعبد بن حميد , ومسلم , وأبو داود , وابن ماجة , وابن حبان , وابن مردويه عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى , فإن قوماً أرداهم سوء ظنهم بالله , فقال الله : (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ فصلت : 23 ] ([122])

ومن خلال ما سبق يتضح أن الآية الكريمة موضوع البحث تتفق مع سبب النزول , وترتبط به ارتباطاً وثيقاً , كما أنها تشمل كل من كان على شاكلة هؤلاء المشركين الشاكين فى علم الله بهم , ولقد بينت الأحاديث السابقة التى سقناها ما يشهد لعموم الآية فى كل من كان على شاكلة هؤلاء الكافرين الغافلين . وفى الحديث قبل الأخير والذى رواه مسلم تفصيل للحوار الذى سيدور بينهم وبين ربهم يوم القيامة , وطلبهم لشاهد عليهم من أنفسهم , وهذا بعد خروجهم من القبور , ووقوفهم للحساب بين يدى الله عز وجل , وفى ذلك تحقيق لقول الله عز وجل (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ فصلت : 21 ]

ونلمح كيف يمتد الإعجاز القرآنى , وتتسع الآية فى معناها ومضمونها لتشمل الأحياء من المشركين فى وقت نزول الآية , وتشمل من يأتى بعدهم ممن سلك سبيلهم , وما يقال لهم يوم القيامة وما يجيبون به . وذلك مظهر من مظاهر العظمة فى نظم القرآن , حيث تتضمن الحديث عمن مضى , ومن سيأتى إلى يوم القيامة , وذلك فضلاً عما فى تصويره الدقيق للحوار الذى سيدور بين هؤلاء الكافرين وبين جلودهم يوم القيامة . فتأمل كيف ربط النظم القرآنى المعجز بين الماضى , والحاضر , والمستقبل كأنهم رأى العين , وكيف طابق الموضوع , وسبب النزول هنا اسم السورة " فصلت " تمام المطابقة ([123]) فليتأمل ! ([124])




(1) الإتقان 1/209

(2) أسباب النزول صــ3 ,4

(3) الإتقان 1/190

(4) مقدمة فى أصول التفسير صــ47-49 , والإتقان 1/190

(5) البرهان 1/22

(1) التحرير والتنوير 1/46

(2) البرهان 1/22- 29 , والإتقان 1/ 190 - 195

(3) البرهان 1/25 باختصار , والإتقان 1/ 204 ,205

(4) فكما قال الواحدى : " لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها , وبيان نزولها " . ومن ذلك ما رواه الشيخان عن مروان بن الحكم أنه بعث إلى ابن عباس يسأله : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتى , وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون . فقال ابن عباس : هذه الآية نزلت فى أهل الكتاب ثم تلا : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتو الكتاب .. إلى قوله : ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ... ) [ آل عمران : 187 , 188 ] قال ابن عباس : سألهم النبى صلى الله عليه وسلم عن شئ فكتموه , وأخبروه بغيره , فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه , واستحمدوا بذلك إليه , وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم " . وأخرج الشيخان عن أبى سعيد الخدرى أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه , وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإذا قدم اعتذروا إليه , وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت : ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ... ) الآية . أسباب النزول صــ3 , ولباب النقول فى أسباب النزول صــ 131 ,132 , والبرهان 1/22-29 , والإتقان 1/ 190 - 195

(1) التحرير والتنوير 1/47

(2) مناسبة هذه الآية لما قبلها وهى قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولن للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ) [ النساء : 51 ] أن ذلك إشارة إلى كعب بن الأشرف , كان قدم مكة وشاهد قتلى بدر وحرض الكفار على الأخذ بثأرهم , وغزو النبى صلى الله عليه وسلم , فسألوه : من أهدى سبيلاً ؟ النبى صلى الله عليه وسلم , أو هم ؟ فقال : أنتم – كذباً منه وضلالة – لعنه الله ! فتلك الآية فى حقه وحق من شاركه فى تلك المقالة , وهم أهل كتاب يجدون عندهم فى كتابهم بعث النبى صلى الله عليه وسلم وصفته , وقد أخذت عليهم المواثيق ألا يكتموا ذلك وأن ينصروه , وكان ذلك أمانة لازمة لهم فلم يؤدوها , وخانوا فيها , وذلك مناسب لقوله تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ...) . قال ابن العربى فى تفسيره : وجه النظم أنه أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم , وقولهم : إن المشركين أهدى سبيلاً . فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات " ولا يرد على هذا أن قصة كعب بن الأشرف كانت عقب بدر , ونزول ( إن الله يأمرك ...) فى الفتح أو قريباً منها , وبينهما ست سنين ؛ لأن الزمان إنما يشترط فى سبب النزول , ولا يشترط فى المناسبة ؛ لأن المقصود منها وضع آية فى موضع يناسبها ؛ والآيات كانت تنزل على أسبابها , ويأمر النبى صلى الله عليه وسلم بوضعها فى المواضع التى علم من الله تعالى أنها مواضعها . البرهان 1/ 26

(3) البرهان 1/32 – 34

(4) نظم الدرر 5/308

(5) أسباب النزول صــ116 ,117 , ولباب النقول صــ150 ,151 . والأثر الوارد فى سبب النزول ضعيف . راجع تخريج الكشاف 2/94 , وزاد المسير 2/114, وتفسير ابن كثير 2/341 , وتفسير الدر المنثور 4/495 - 497

(6) تفسير ابن كثير2/341 , والكشاف 2/94 , وابن عطية 2/70

(1) فأسباب النزول سر من أسرار إعجاز القرآن , حيث نزل منجماَ فى ثلاث وعشرين سنة على حسب الحوادث , وعلى مر السنين والأيام , ولم يخل ذلك ببلاغة النظم وارتباط بعضه ببعض , وهذا أمر يلاحظ ويلتمس فى علم مناسبة الآيات القرآنية , وكيف أن السورة ترتبط أجزاؤها وتتلاحم فيما بينها حتى تكون قطعة واحدة أفرغت إفراغاً واحداً . ومما ذكره العلامة الدكتور / محمد دراز حول التناسب والوحدة فى النظم القرآنى : " ... وأنت قد تعرف أن الكلام فى الشأن الواحد إذا ساء نظمه انحلت وحدة معناه , فتفرق من أجزائها ما كان مجتمعاً , وانفصل ما كان متصلاً , كما تتبدد الصورة الواحدة على المرآة إذا لم يكن سطحها مستوياً . أليس الكلام هو مرآة المعنى ؟ فلابد إذاً لإبراز تلك الوحدة الطبيعية المعنوية من إحكام هذه الوحدة الفنية البيانية . وذلك بتمام التقريب بين أجزاء البيان والتأليف بين عناصره حتى تتماسك , وتتعانق أشد التماسك والتعانق . ليس ذلك بالأمر الهين كما قد يظنه الجاهل بهذه الصناعة ؛ بل هو مطلب كبير يحتاج مهارة وحذقاً , ولطف حس فى اختيار أحسن المواقع لتلك الأجزاء : أيها أحق أن يجعل أصلاً , أو تكميلاً , وأيها أحق أن يبدأ به أو يختم , أو يتبوأ مكاناً وسطاً ؟ ثم يحتاج مثل ذلك فى اختيار أحسن الطرق لمزجها : بالإسناد , أو بالتعليق , أو بالعطف , أو بغيرها . هذا كله بعد التلطف فى اختيار تلك الأجزاء أنفسها , والاطمئنان على صلة كل منها بروح المعنى, وأنها نقية من الحشو , قليلة الاستطراد , وأن أطرافها , وأوساطها تستوى فى تراميها إلى الغرض , ويستوى هو فى استهدافه لها , كما تستوى أبعاد نقط الدائرة بالقياس إلى المركز , ويستوى هو بالقياس إلى كل منها . تلك حال المعنى الواحد الذى تتصل أجزاؤه فيما بينها اتصالاً طبيعياً , فما ظنك بالمعانى المختلفة فى جوهرها , المنفصلة بطبيعتها ؟ كم من المهارة والحذق , بل كم من الاقتدار السحرى يتطلبه التأليف بين أمزجتها الغريبة واتجاهاتها المتشعبة ؟ حتى لا يكون الجمع بينها فى الحديث كالجمع بين القلم والحذاء , والمنشار والماء , بل قد يكون لها مزاج واحد , واتجاه واحد , وحتى يكون عن وحداتها الصغرى وحدة جامعة أخرى . إنه من أجل عزة هذا المطلب نرى البلغاء وإن أحسنوا وأجادوا إلى حد ما فى غرض غلرض , كان منهم الخطأ والإساءة فى نظم تلك الأغراض كلاً أو جلاً . فالشعراء حينما يجيئون فى القصيدة الواحدة بمعان عدة , أكثر ما يجيئون به أشتاتاً لا يلوى بعضها على بعض . وقليلاً ما يهتدون إلى حسن التخلص من الغرض إلى الغرض , كما فى الانتقال من النسيب إلى المدح . والكتاب ربما استعانوا على سد تلك الثغرات باستعمال أدوات التنبيه أو الحديث عن النفس ؛ كقولهم : ألا وإن .. هذا ولكن .. بقى علينا .. ولننتقل ... نعود .. قلنا .. وسنقول .. هذا شأن الأغراض المختلفة إذا تناولها الكلام الواحد فى المجلس الواحد . فكيف لو قد جئ بها فى ظروف مختلفة , وأزمان متطاولة ؟ ألا تكون الصلة فيها أشد انقطاعاً , والهوة بينها أشد اتساعاً ؟ فإن كنت قد أعجبك من القرآن نظام تأليفه البيانى فى القطعة منه حيث الموضوع واحد بطبيعته , فهلم إلى النظر فى السورة منه حيث الموضوعات شتى , والظروف متفاوتة , لترى من هذا النظام ما هو أدخل فى الإعجاب والإعجاز . ألست تعلم أن ما امتاز به أسلوب القرآن من اجتناب سبيل الإطالة , واجتناب جانب الإيجاز – بقدر ما يتسع له جمال اللغة - قد جعله هو أكثر الكلام افتناناً , نعنى أكثره تناولاً لشؤون القول وأسرعه تنقلاً بينها من وصف , إلى قصص , إلى تشريع , إلى جدل , إلى ضروب شتى , بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون , والشأن الواحد فيه تنطوى شؤون وشؤون . أو لست تعلم أن القرآن – فى جل أمره – ما كان ينزل بهذه المعانى المختلفة جملة واحدة , بل كان يتزل بها آحاداً مفرقة على حسب الوقائع والدواعى المتجددة , وأن هذا الانفصال الزمانى بينها , والاختلاف الذاتى بين دواعيها , كان بطبيعته مستتبعاً لانفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينهت منزعاً للتواصل والترابط ؟ ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام , وتقطيع أوصاله إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث فى سلك واحد تحت اسم سورة واحد ؟ خذ بيدك متون كاملة من الحديث النبوى كان التحديث بها فى أوقات مختلفة , وتناولت أغراضاً متباينة , أو خذ من كلام من شئت من البلغاء بضعة أحاديث كذلك . وحاول أن تجئ بها سرداً لتجعل منها حديثاً واحداً . من غير أن تزيد بينها شيئاً أو تنقص شيئاً . ثم انظر : كيف تتناكر معانيها وتتنافر مبانيها فى الأسماع والأفهام ! وكيف يبدو عليها من الترقيع والتلفيق والمفارقة ما لا يبدو على القول الواحد المسترسل ! وسبب ثالث كان أجدر أن يزيد نظم السورة تفكيكاً ووحدتها تمزيقاً . ذلك هو الطريقة التى اتبعت فى ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض , وفى تأليف وحدات السور من تلك النجوم . وإنها لطريقة طريفة سنريك فيها العجيبة الثالثة الكبرى التى خرجت بهذا التأليف القرآنى عن طبيعة التأليف الإنسانى . فتعال فانظر ! انظر إلى الإنسان حين يزاول صناعة ما من صناعاته التركيبية . ألا تراه يبدأ عمله دائماً بتعرف أجزاء المركب ومقوماته , والوقوف عل عناصره ومتمماته , قبل أن يبت الحكم فى تحديد موقع كل جزء منها ؟ هاتان مرحلتان تتنزل الثانية منهما منزلة الصورة من مادتها . فلا جرم أن عكس القضية فيهما إلا سيراً بالعقل البشرى فى غير سبيله , وإدلاجاً به فى مزلة لا قرار للإقدام عليها , ولا هدى للسالك فيها , وهل رأيت أحداً سلك هذه السبيل المؤتفكة ثم استقام له الأمر عليها إلى نهايتها ؟ با انظر إلى الإنسان حين يأخذ فى ترتيب أجزاء المركب بعد جمعها . ألا تراه ختضعاً لسنة السير الطبيعى التى يخضع لها كل سائر إلى غرض ما حسى أو عقلى ؟ فهو إن قطع سبيله خطوات لم يستطع أن يجتاز أخراها قبل أولاها , وإن صعد فيه درجات لم يستطع أن يؤخر أسفلها عن أعلاها . تلك حدود رسمتها قوانين الفطرة العامة , فلا يستطيع أحد أن يتخطاها . سواء فى صناعاته المادية او المعنوية . فالبناء والحائك والكاتب والشاعر فى هذه الحدود سواء . النبأ العظيم صــ142 – 147 باختصار – ط دار القلم – ط ثانية – (1390) هـ (1970) م . . ويقول الشيخ / محمد رشيد رضا : " إن القرآن لو أنزل بأساليب الكتب المألوفة المعهودة وترتيبها لفقد أعظم مزايا هدايته المقصودة بالقصد الأول . وأقول أيضاً : إنه لو أنزل هكذا لفقد بهذا الترتيب أخص مراتب إعجازه المقصودة بالدرجة الثانية . كلا , إن كل واحدة من المزيتين مقصودة لذاتها , فالأولى أن يعبر عن المزية الأولى بالموضوع , وعن الثانية بالشكل , كاصطلاح المحاكم , فيقال : لو كان القرىن مرتباً مبوباً كما ذكر لكان خالياً من أعظم مزاياه على غيره من الكتب شكلاً وموضوعاً . الوحى المحمدى صــ172 باختصار – ط مؤسسة عز الدين – ط ثالثة – (1406) هـ .

(1) انفرد به البخارى من هذا الوجه , ورواه مسلم من وجه آخر , والروايه الأولى فى الصحيحين عن البراء . ورواه الترمذى عن ابن عباس وصححه . أسباب النزول صــ27 , 28 , و لباب النقول صــ47 – 49 , وتفسير ابن كثير 1/ 452 , 458

(2) والسفهاء هم مشركوا العرب , أو أحبار اليهود , أو المنافقون , أو أهل مكة , والآية عامة فى هؤلاء كلهم . ونزلت بعد تحويل القبلة . زاد المسير 1/ 153 , وتفسير ابن كثير 1/ 458

(1) تفسير ابن كثير 1/458

(2) تفسير البغوى 1/160

(3) تفسير الكشاف 1/226

(4) قال تعالى : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَل ِّوَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) )

(1) تفسير غرائب القرآن 2/424

(2) حاشية شيخ زادة على البيضاوى 2/ 359 - 361

(3) زاد المسير 1/ 155 ,156

(4) تفسير ابن عطية 1/221

(1) تفسير روح المعانى 2/8

(2) السابق 2/7

(3) حاشية شيخ زادة 2/ 359 - 361

(4) تفسير أبى السعود 1/206

(5) نظم الدرر 2/ 215 , 216

(1) تفسير الطبرى 5/516 ,517 , ولباب النقول صــ110 , 111 , وأسباب النزول صــ80 ,81 , وتفسير ابن كثير 2/62- 65 , وتفسير الدر المنثور3/ 631 – 641 ط مركز هجر للبحوث والدراسات – ط أولى – ( 1424 ) هـ (2003) م.

(2) تفسير الطبرى 5/516-521 , وقال الحافظ ابن حجر فى شرح البخارى : لا منافاة بين الحديثين , بل يحمل على أن النزول كان بالسببين معاً . لباب النقول صــ110, وقال ابن الجوزى : فى سبب نزولها ثلاثة أقوال : حديث الأشعث مع اليهودى . الثانى : أنها نزلت فى اليهود عهد الله إليهم فى التوراة تبيين صفة النبى فجحدوا وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا . هذا قول عكرمة ومقاتل .والثالث :حديث السوق والسلعة. زاد المسير 1/410 ,411 وقال الألوسى : ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه . روح المعانى 3/204 , وراجع تفسير البغوى 2/56 , 60 , وتفسير النسائى 1/299,وما بعدها

(3) تفسير التحرير والتنوير 3/289 ,290

(4) تفسير ابن كثير 2/62-65

(1) تفسير الكشاف 1/573

(2) قال فى الكشاف : فإن قلت أى فرق فى استعماله فيمن يجوز عليه النظر , وفيمن لا يجوز عليه ؟ قلت : أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ؛ لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيما يجوز عليه النظر . الكشاف 18573

(3) تفسير التحرير والتنوير 3/289 ,290

(4) تفسير الكشاف 1/573 , وابن كثير 2/62

(5) روح المعانى 3/204

(1) تفسير أبى السعود 1/405

(2) حاشية شيخ زادة على البيضاوى 3/98

(3) نظم الدرر 4/197 , 462 ,463 باختصار وتصرف .

(4) أسباب النزول صـ 186 , ولباب النقول صــ127 , والصحيح المسند من أسباب النزول صــ122 للوادعى , والصحيح من أسباب النزول صـ 202 للحميدان , والتفسير الصحيح 2/ 462 , 463

(5) أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سبب نزول الآية , منهم الطبرى , والبغوى , وابن العربى , وابن عطية , والقرطبى , وابن كثير , وابن عاشور . وقال الألوسى : وأصح الروايات حديث أبى سعيد إلا أن كون سبب النزول قسمته صلى الله عليه وسلم للصدقة على الوجه الذى فعله أوفق بالآية من كون ذلك قسمته للغنيمة فتأمل . روح المعانى 10/120 , والمحرر فى أسباب نزول القرآن 1/590

(1) الغريبين فى القرآن والحديث 5/1703 للهروى – ط مكتبة نزار – ط أولى – (1419) هـ - (1999) م , وتفسيرغريب القرآن صــ188 لابن قتيبة – ط دار الكتب العلمية – (1978) هـ - (1978) م , وغريب القرآن صــ172 للسجستانى – ط مكتبة صبيح – (1382) هـ - (1963) م , والمفردات فى غريب القرآن صـ454 للراغب الأصفهانى – ط دار المعرفة – بيروت , وقطف الأزهار فى كشف الأسرار 2/1158 للسيوطى – ط وزارة الاوقاف – قطر – ط أولى – (1414) هـ - (1994) م , وروح المعانى 10/120 للألوسى .

(2) يقول فى المنار : " وقد عبر عن رضاهم بصيغة الماضى للدلالة على أنه كان يكون لأجل العطاء فى وقته وينقضى فلا يعدونه نعمة يتمنون دوام الإسلام لدوامها ... " تفسير المنار 10/566 , 567

(3) قطف الأزهار 2/1185 , والتحرير والتنوير 10/232

(4) روح المعانى 10/120

(5) والمنافقون معروفون بالشح كما قال تعالى : (أشحة عليكم ...) وقال : ( أشحة على الخير ...) ومن شحهم أنهم يودون أن الصدقات توزع عليهم , فإذا رأوها توزع على غيرهم طعنوا فى إعطائها . التحرير والتنوير 10/231 , 332

(6) نظم الدرر 8/502 , 603

(1) ومادة " قش " , ومقلوبها " شق " , ومضاعفها " قشقش " , وشقشق تدور على الجمع , وتلازمه الفرقة ؛ فإنه لا يجمع إلا ما كان مفرقاً , ولا يفرق إلا ما كان مجتمعاً . مصاعد النظر 2/ 154 , 155 , ويراجع فى مقاصد السورة بصائر ذوى التمييز 1/ 228 , 229

(2) الكشاف 3/5

(3) وراجع فى أسمائها ومعانيها الإتقان 2/357 – 359 , وبصائر ذوى التمييز 1/ 227 - 229

(4) وورد نحو هذا من حديث أبى هريرة , وأبى عقيل , وأبى سعيد الخدرى , وابن عباس , وعميرة بن سهيل بن رافع . أخرجها كلها ابن مردويه . أسباب النزول صـ191 للواحدى , ولباب النقول صـ236 للسيوطى , والصحيح من أسباب النزول صــ205 , والصحيح المسند من أسباب النزول صـ124

(5) فأصل " المطوعين " المتطوعين أدغمت التاء فى الطاء , فهى كالمطهرين بتشديد الطاء , والمتطهرين . المنار 10/ 651 , 652

(6) أخرج الطبرى بسنده الحسن عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس قوله : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ... ) قال : جاء عبد الرحمن ابن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبى صلى الله عليه وسلم , وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام , فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً , وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع , وفى حديث كعب الطويل فى صحيح مسلم فى تفسير الآية (118 ) من سورة التوبة , وفيه أن أبا خيثمة الأنصارى هو الذى تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون . التفسير الصحيح 2/ 475

(7) المنار 10/651 , 652

(1) روح المعانى 10/147

(2) فالجُهد بضم الجيم الطاقة , وأطلقت الطاقة على مسببها الناشئ غنها , والمراد لا يجدون سبيلاً إلى إيجاد ما يتصدقون به إلا طاقتهم أى جهد أبدانهم , أو يكون وجد هنا هو الذى بمعنى كان ذا جدة , أى غنى فلا يقدر له مفعول , أى الذين لا مال لهم إلا جهدهم , وهذا أحسن . وفيه ثناء على قوة البدن , والعمل وأنها تقوم مقام المال . وهذا أصل عظيم فى اعتبار أصول الثروة , والتنويه بشأن العامل . التحرير والتنوير 10/275 , وينظر المفردات صــ101

(3) روح المعانى 10/ 147

(4) وقيل نزلت فى النضر بن الحارث , وقيل نزلت فى رجل من اليهود أسلم فذهب بصره , وماله , وولده , فتشاءم بالإسلام , فقال : لم أصب من دينى هذا خيراً , ذهب بصرى , ومالى , ومات ولدى , فنزلت . وكلاهما ضعيف . أسباب النزول صــ231 للواحدى , ولباب النقول صــ160 , والصحيح المسند من أسباب النزول صــ238 , والتفسير الصحيح 3/404 , والمحرر فى أسباب النزول 2/ 697 – 699 , وتفسير الطبرى 16/ 472 - 475 وتفسير ابن كثير 5/400 , والدر المنثور 10/428 , وتفسير ابن زمنين 3/172 , 173 , وتفسير القاسمى 12/4328

(5) صح ذلك فيما أخرجه ابن أبى حاتم , وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس قال : " كان الأعراب يأتون النبى صلى الله عليه وسلم فيسلمون " الكشاف 4/179 , 180 , والدر المنثور 10/428

(1) نظم الدرر 13/16

(2) التحرير والتنوير 17/212

(3) السابق 17/212

(4) الكشاف 4/ 179 , 180 , وتفسير الرازى 23/14 , وتفسير أبى السعود 4/13 , والبحر المحيط 6/329

(5) ويبدو لى أيضاً أن التعبير بـ " الحرف " أجمع للمعنى الحسى والمعنوى , وأدق فى التعبير عن الصورة المقصودة ؛ لأن حرف الشئ وطرفه من صفات الأجسام . ومعنى الطرف أقرب إلى المعنى الحسى , والمقصود هنا التعبير عن حالهم , وقلقهم , واضطرابهم فى الدين , وهى ناحية معنوية , فناسب التعبير بالحرف ليكون أعم فى الحال . كما أن التعبير بالحرف ينطوى على ناحية تصويرية دقيقة لمن تأمل وتبصر . فحرف كل شئ طرفه وشفيره وحده , فالحرف فيه دقة كحرف الجبل وهو أعلاه المحدد , وحرف السفينة , وحروف الهجاء أى أطراف الكلمات الرابطة بعضها ببعض , ويقال : ناقة حرف تشبيهاُ بحرف الجبل , أو تشبيهاً فى الدقة بحرف من حروف الكلمة . ففى الحرف نحافة وضعف ودقة , وهو ما يتناسب مع حال هؤلاء المذبذبين الشاكين , فكأنهم فى الغاية من الشك والتردد , والحيرة والتذبذب , فليس لهم من الإيمان قدر يعصمهم من الوقوع فى الكفر والخسران المبين , فهم متأهبون ومستعدون للهبوط والسقوط إلى أقصى غاية . وهذا التعبير يختلف لوعبر بـ " الطرف " أو نحوه ؛ لأننا فى التعبير الثانى لن نلمس حالتهم كما نلمسها فى التعبير بالحرف , ولن نقف على مقدار ترددهم كما نقف عليه فى التعبير الأخير الذى دخل فيه حرف الاستعلاء " على " مع مجيئه نكرة , ففيه التحمت الصورة الحسية بالصورة المعنوية فى دقة وروعة لا مثيل لها فتأمل !! . هذا وقد قيل فى الحرف : أى يعبد الله على وجه واحد ومذهب واحد . ويراجع فى تفصيل ذلك المفردات صــ114 للراغب , وبصائر ذوى التمييز 2/ 452 للفيروزآبادى , وتفسير غريب القرآن صـ290 لابن قتيبة , ونفس الصباح فى غريب القرآن 2/508 للخزرجى .

(1) زاد المسير 5/411

(2) حشية شيخ زاده 6/92 , وحاشية الشهاب 6/85 , 86 , وروح المعانى 17/124

(3) نظم الدرر 13/16 - 18

(4) التحرير والتنوير 17/251

(5) التحرير والتنوير 17/213 - 215

(6) غرائب التفسير 2/753 للكرمانى .

(7) قال ابن عاشور : " ويطلق الانقلاب كثيراً على الانصراف من الجهة التى آتاها إلى الجهة التى جاء منها , وهو مجاز شائع , وبه قال المفسرون . ولا يناسب اعتباره هنا ؛ لأن مثله يقال فيه : ( انقلب على عقبيه ) لا على وجهه كما قال تعالى : (...إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ...) [ البقرة : 143 ] إذ الرجوع يكون إلى جهة غير جهة الوجه " . التحرير والتنوير 17/213 - 215

(1) نظم الدرر 13/ 16 - 18

(2) التحرير والتنوير 17/ 213 - 215

(3) نظم الدرر 13/ 16 - 18

(4) تفسير الرازى 23/14

(5) ممن ذهب إلى ذلك قتادة , وأبو عبيد , وابن الضريس , والبيهقى , وغيرهم , وأيدهم السيوطى فى الإتقان 1/ 68

(1) مصاعد النظر 2/ 292 , 293 , والناسخ والمنسوخ صــ228 , 231 بهامش أسباب النزول للواحدى .

(2) أسباب النزول صــ237 , 238 , ولباب النقول صـ 167 , والصحيح المسند من أسباب النزول صـ160 – 164 , والصحيح من أسباب النزول صـ243 – 245 , والمحرر فى أسباب النزول من خلال الكتب التسعة 2/719 – 742

(3) لباب النقول صــ168, والمراجع السابقة فى نفس الموضع .

(1) فتح البارى 8/ 314 , 315 , وتفسير القرطبى 15/142 , والمحرر الوجيز 4/ 166 , وتفسير الثعالبى 4/ 173 , ولباب النقول صــ168 , والتحرير والتنوير 18 / 163 , والمحرر فى أسباب النزول من خلال الكتب التسعة 2/ 719 - 742

(2) تفسير القرطبى 15/100 , وروح المعانى 18/74

(3) نظم الدرر 13/200

(4)أحكام القرآن 3/ 332 , ومصاعد النظر 2/310

(5) ولا يفهم من هذا الكلام قصر الآيات على أسباب النزول , فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معلوم ومقرر , وغالب القرآن نزل للهداية بدون تقدم أسباب , وهو فى ذلك معجز . ونزوله على الأسباب أيضاً معجز , فهو فى الحالتين للبشرية جمعاء فى كل مكان وزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . وحديثنا هنا نبين من خلاله أن القرآن منسجم مع الآيات التى ارتبطت عند نزولها بأسباب كانت فيها حكم تشريعية للناس فى كل زمان ومكان فليتنبه إلى ذلك !!

(1) فلما كان لفظ المحصنات عاماً للزوجات , وكان لهن حكم غير ما تقدم أخرجهن بقوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ...) نظم الدرر 13/216

(2) التحرير والتنوير 18/162

(3) تفسير حدائق الروح والريحان 19/ 202

(4) ووجه عذرهم ما فى نفوس الناس من سجية الغيرة على أزواجهم , وعدم احتمال رؤية الزنى بهن , فدفع عنهم حد القذف بما شرع لهم من الملاعنة . وفى هذا الحكم قبول لقول الزوج فى امرأته فى الجملة إذ كان مثبتاً حتى أن المرأة بعد أيمان زوجها تكلف بدفع ذلك بأيمانها وإلا قبل قوله فيها مع أيمانه فكان بمنزلة شهادة أربعة , فكان موجباً حدها إذا لم تدفع ذلك بأيمانها . التحرير والتنوير 18 /161 , 162

(5) قال أبو السعود : " وفى التعبير عن التفوه بما قالوا فى حقهن بـ " الرمى " المنبئ عن صلابة الآلة , وإيلام المرمى , وبعده عن الرامى إيذان بشدة تأثيره فيهن , وكونه رجماً بالغيب ..." إرشاد العقل السليم 4/92

(1) التحرير والتنوير 18/ 164

(2) الرمى يقال فى الأعيان كالسهام والحجر . ويستعار فى المعانى قال تعالى (... وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ...) [ الأنفال : 17 ] , ويقال فى المقال كناية عن الشتم كالقذف فى قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ...) . ومنه فى اللعان " إنى لصادق فيما رميتها به ..." المفردات صــ204 للراغب الأصفهانى , وعمدة الحفاظ فى تفسير أشرف الألفاظ 2/115 للسمين الحلبى - ط دار الكتب العلمية – ط أولى – (1417) هـ - (1996) م .

(3) فتح القدير 4/10 , 11

(4) التحرير والتنوير 18/ 167

(5) فالدرء : الدفع والميل إلى أحد الجانبين . وفى الحديث : " ادرءوا الحدود بالشبهات "وفيه تنبيه على تطلب حيلة يدفع بها الحد . ودرأت عنه دفعت عن جانبه , ودارأته : دافعته قال تعالى : (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ ...) . المفردات صــ169 , وعمدة الحفاظ 2/10 , وبصائر ذوى التمييز 2/597 , 598 ,

(6) ومعنى إسناد الغضب للبارى سبحانه الانتقام والعقاب فقط , وقيل : هو إرادة الانتقام , فعلى الأول يكون صفة فعل , وعلى الثانى يكون صفة ذات . قال الراغب : وإذا وصف الله تعالى به فالمراد به الانتقام دون غيره . وقال ابن عرفة : وأما غضب الله فإنكاره على من عصاه فيعاقبه . وقال الطحاوى : إن الله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى . المفردات صــ361 , وعمدة الحفاظ 3/165 , وبصائر ذوى التمييز 4/135

(6) أى فى قوله تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [ النور : 2 ] الكشاف 4/ 272 , وتفسير الرازى 23/ 173

(7) حدائق الروح والريحان 19/228

(1) نظم الدرر 13/ 218 , وزاد المسير 6/13 , وتفسير ابن كثير 6/15 – 19

(2) ويرى ابن عاشور أنه عين فى الدعاء خصوص اللعنة لأنه وإن كان كاذباً فقد عرض بامرأته للعنة الناس , ونبذ الأزواج إياها , فناسب أن يكون جزاؤه اللعنة . واللعنة واللعن : الإبعاد بتحقير ... وعين لها فى الخامسة الدعاء بغضب الله عليها إن صدق زوجها لأنها أغضبت زوجها بفعلها فناسب أن يكون جزاؤها على ذلك غضب ربها عليها كما أغضبت بعلها . التحرير والتنوير 18 / 167 , 168

(3) تفسير الرازى 23/173

(4) وذلك فى الآية (12) من سورة الحجرات قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ), وفى الأيات ( 73 , 54 , 128 ,160 ) من سورة البقرة , وفى الآيتين ( 16 , 64 ) من سورة النساء , وفى الآيتين ( 104 , 118 ) من سورة التوبة .

(1) تفسير القاسمى 12/ 4459 , وروح المعانى 18/111

(2) تفسير التحرير والتنوير 18 168 , 169 باختصار .

(3) أسباب النزول صــ279 , 280 , ولباب النقول صــ206 , والصحيح من أسباب النزول صــ279 , 280 , والصحيح المسند من أسباب النزول صــ198 , وتفسير ابن كثير 7/ 172 , 173 قال ابن عطية : ولقد ذكر النقاش أن الثلاثة : صفوان بن أمية , وفرقد بن ثمامة , وأبو فاطمة . وذكر الثعلبى أن الثقفى عبدياليل , والقرشيان ختناه ربيعة وصفوان ابنا أمية بن خلف , ويشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة , فالآية مدنية . المحرر الوجيز 5/11 قلت : وسيأتى تفصيل القول فى ذلك عند بيان سبب النزول وعلاقته بالنظم فى الآيات .

(1) قال تعالى فى شأنهم يوم القيامة : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [ يس : 65 ] , وقال : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) , وفى الآية السابقة للآية موضع البحث قوله تعالى : ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ فصلت : 21 ] .

(2) المحر الوجيز 5/11

(3) قال الطاهر ابن عاشور : " وكيف يصح كلامه ذلك وقد ذكر غيره أن النفر الثلاثة هم : عبدياليل الثقفى , وصفوان وربيعة ابنا أمية بن خلف , فأما عبدياليل فأسلم وله صحبة عند ابن إسحاق وجماعة , وكذلك صفوان بن أمية , وأما ربيعة بن أمية فلا يعرف له إسلام فلا يلاقى ذلك أن تكون الآية نزلت بعد فتح مكة . التحرير والتنوير 24/271

(4) التحرير والتنوير 24/270 , 271

(1) المحرر الوجيز 5/11 , وتفسير ابن كثير 7/172 , وتفسير القرطبى 18/406 , 407 , وفتح القدير 4/671 , وتفسير أبى السعود 5/24 , وحاشية الجمل على الجلالين 4/41 , والتحرير والتنوير 24/ 271

(2) المحرر الوجيز 5/11 , وتفسير ابن كثير 7/172

(3) الكشاف 5/ 378 , وتفسير أبى السعود 5/42 , وينظر تفسير الرازى27/118 , وحاشية الجمل 4/41 , وحاشية الشهاب 7/397 , وفتح القدير 4/671 , وروح المعانى 24/117 , وحدائق الروح والريحان 25/331

(1) الكشاف 5/378 , وفتح القدير 4/670

(2) تفسير الرازى 27/117

(3) فتح القدير 4/670 , 671

(4) روح المعانى 24/115

(1) رواه الحاكم في المستدرك – كتاب التفسير - ح (3703) – 2/517 – ط دار الحرمين للطباعة والنشر – ط أولى – (1417) هـ (1997) م. والفدام : مايشد على فم الإبريق والكوز من خرقة لتصفية الشراب الذى فيه , أى أنهم يمنعون الكلام بأفواههم حتى تتكلم جوارحهم , فشبه ذلك بالفدام . النهاية في غريب الحديث والأثر 3/421 - ط دار إحياء التراث العربى – (1383) هـ (1963 ) م. وينظر تفسير ابن كثير 7/173 , وفتح القدير 4/670 , 671

(2) رواه مسلم من حديث أنس , ورواه أبو يعلى , وابن أبى حاتم , والطبرانى , وابن مردويه من حديث سعيد بلفظ آخر . مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 10/212 ط دار الكتب العلمية – بيروت – ط أولى – ( 1422 ) هـ (2001) م .

(3) فتح القدير 4/670 , 671 , وأول الحديث فى صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله . صحيح مسلم بشرح النووى - باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى – 17/209 ط المطبعة المصرية بالأزهر – ط أولى – ( 1349 )هـ (1930) م .

(1) فمن أغراض السورة ومقاصدها : أن القرأن معصوم من أن يتطرقه الباطل , والحديث عن إعراض المشركين عنه , وصمهم للآذان , إبطال مطاعن المشركين فى القرآن , وتذكيرهم بأنه نزل بلغتهم , فلا عذر لهم أصلاً فى عدم الانتفاع بهديه , وزجر المشركين وتوبيخهم على كفرهم بخالق السماوات والأرض , وإنذارهم بما حل بالأمم المكذبة , ووعيدهم بعذاب الآخرة , وشهادة السمع والبصر , والجلود عليهم يوم القيامة . التحرير والتنوير 24/ 228 , 229 باختصار .

(2) ويراجع ما ذكره أبو جعفر ابن الزبير الغرناطى في كتابه البرهان في ترتيب سور القرآن . حيث بين علاقة سورة فصلت بما قبلها (سورة غافر ) , وما تضمنته سورة فصلت من أغراض , ومقاصد . صــ294-297 ط – وزارة الأوقاف بالمغرب – (1410) هـ (1990) م.