الأربعاء، 8 أبريل 2009

الفصل الثالث : بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث
هذا الموضوع قد كتب فيه بعض القدامى والمحدثين ([1] ) , ولقد بينوا أن الحديث النبوى إنما جاء على الأسلوب المعتاد للعرب فى التخاطب , وإن كان قد ارتقى فى سلم البيان والبلاغة إلى درجة عالية .أما القرآن فهو أسلوب مبتكر لا شبيه له فيما يعرف من كلام العرب([2] )

يقول الباقلانى : " والذى يصور عندك ما ضمنا تصويره , ويحصل لديك معرفته إذا كنت فى صنعة الأدب متوسطاً , وفى علم العربية متبيناً أن تنظر أولاً فى نظم القرآن ثم فى شئ من كلام النبى صلى الله عليه وسلم , فتعرف الفصل بين النظمين والفرق بين الكلامين فإن تبين لك الفصل , ووقعت على جلية الأمر وحقيقة الفرق فقد أدركت الغرض , وصادفت القصد " وبعد أن روى للنبى صلى الله عليه وسلم سبع خطب وكتابين قال : " فإن كان لك فى الصنعة حظ , أوكان لك فى هذا المعنى حس , أو كنت تضرب فى الأدب بسهم أو فى العربية بقسط - وإن قل ذلك السهم أو نقص ذلك النصيب - فما أحسب أنه يشتبه عليك الفرق بين براعة القرآن , وبين ما نسخناه لك من كلام النبى فى خطبه ورسائله, وما عساك تسمعه من كلامه , ويتساقط إليك من ألفاظه , وأقدر أنك ترى بين الكلامين بوناً بعيداً , وأمداً مديداً, وميداناً واسعاً, ومكاناً شاسعاً... وستعلم لا محالة أن نظم القرآن من الأمر الإلهى , وأن كلام النبى صلى الله عليه وسلم من الأمر النبوى ... فإذا أردت زيـادة فى التبين , وتقدماً فى التعرف , وإشرافاً على الجلية , وفوزاً بحكم القضية , فتأمل هداك الله ما ننسخه من خطب الصحابة و البلغاء لتعلم أن نسجها ونسج ما نقلنا من خطب النبى واحد , وإنما يقع بين كلامه وكلام غيره ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين , وبين شعر الشاعرين , وذلك أمر له مقـدار معــلوم , وحـد ينــتهى إليه مضبوط " ([3] )
ويقول أديب العربية الرافعى : " على أن أعجب شئ أنك إذا قرنت كلمة من تلك البلاغة إلى مثلها مما فى القرأن رأيت الفرق بينهما فى ظاهره كالفــرق بين المعجز وغير المـعجزسـواء , ورأيت كلامه صلى الله عليه فى تلك الحال مما يطمع فى مثله , وأحسست أن بينك وبينه صلة تطوع لك القدرة عليه , وتمد لك أسباب المطمعة فيه بخلاف القرآن فإنك تستيئس من جملته , ولا ترى لنفسك إليه طريقاً البتة , إذ لا تحس منه نفساً إنسانية , ولا أثراً من آثار هذه النفس , ولا حالة من حالاتها حتى تأنس إلى ذلك على التوهم ثم تتوهم الطمع والمعارضة من هذه الآنسة فتمضى عزمك , وتقطع برأيك , وتبت القول فيه كما يكون لك قراءة الكلام الإنسانى , فإن جميع كلام الآدمى منهاج , ولجملته طريق , وحدود البلاغة التى تفصل بعضه عن بعض كلها مما يتوقف عليه بالحس والعيان , ويقدر فرق ما بين بعضها إلى بعض مهما بلغ من تفاوتها واختلافها فى السبك والصنعة والغرابة . بيد أن ذلك مما لا يستطاع فى القرآن , ولا وجه إليه بحال من الأحوال , فما هو إلا أن تقرأ الآية حتى تراها قد خرجت عن حد المألوف , وانسلت منه , وفاتت سمت ما قدرت لها من مطلع ومقطع ... وهذا وجه من أبين وجوه الإعجاز فى القرأن , وقد جاء من طبيعة تركيبه وأنه لا أثر فيه من آثار النفس الإنسانية ... " ([4] )
ويقول أ. د. محمد عبد الله دراز : " ونحن نرى أسلوب القرآن فنراه ضرباً وحده لا يجرى مع القرآن فى ميدان إلا كما تجرى محلقات الطير فى جو السماء لا تستطيع إليها صعوداً . ثم نرى أساليب الناس فنراها على اختلافها ضرباً واحداً لا تعلو عن سطح الأرض , فمنها ما يحبو حبواً , ومنها ما يشتد عدواً , ونسبة أقواها إلى القرآن كنسبة هذه السيارات الأرضية إلى تلك السيارات السماوية ! نعم لقد تقرأ القطعة من الكلام النبوى فتطمع فى اقتناصها ومجاراتها كما تطمع فى اقتناص الطائر أو مجاراته , ولقد تقرأ الكلمة من الحكمة فيشتبه عليك أمرها : أمن النبوة هى أم من كلمات الصحابة أو التابعين ذلك ما علمت من امتياز الأسلوب النبوى بمزيد الفصاحة , ونقاء الديباجة , وإحكام السرد . ولكنه امتياز قد يدق على المنتهين فى هذا الفن , وقد يقصر الذوق وحده عن إدراكه , فيلجأ إلى النقل يستعينه فى تمييز بعض الحديث المرفوع من الحديث الموقوف أو المقطوع . أما الأسلوب القرآنى فإنه يحمل طابعاً لا يلتبس معه غيره , ولا يجعل طامعاً يطمع أن يحوم حول حماه , بل يدع الأعناق تشرئب عليه ثم يردها ناكسة الأذقان على الصدور . كل من يرى بعينين أو يســمع بأذنين إذا وضع القرآن بإزاء غير القرآن فى كفتى ميزان , ثم نظر بإحدى عينيه أو استمع بإحدى أذنيه إلى أسلوب القرآن , وبالأخرى إلى أسلوب الحديث النبوى وأسـاليب سائر الناس , وكان قد رزق حظاً من الحاسة البيانية والذوق اللغوى فإنه لا محالة سيؤمن معنا بهذه الحقيقة الجلية , وهى أن أسلوب القرآن لا يدانيه شئ من هذه الأساليب كلها . ونحسب أنه بعد الإيمان بهذه الحقيقة لن يسعه إلا الإيمان بتاليها ... استدلالاً بصنعة ( ليس كمثله شئ ... ) (الشورى : 11) على صانع( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) ([5] ) وهذا الفرق العظيم جداً بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث قد أشار إليه أيضاً الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا فى كتابه " فى الحديث النبوى " وكان مما ذكره : " وإن هذا التفاوت الكبير فى الأسلوبين إذا أنعم الإنسان النظر فيه , وكان ذا ملكة بيانية لا يترك لديه مجالاً للشك والريبة فى أن القرآن والحديث النبوى صادران عن مصدرين مختلفين , ولقد تقدمت فى العصر الحديث دراسة الأساليب بشكل أصبح الدارسون فيه يستطيعون تحديد معالم الشخصية لصاحب النص بشكل دقيق , وقد يذكرون تاريخ حياته وصفاته ومقدرته العلمية من النظر فى آثاره , وقد أصبح فى حكم المقرر أن الأسلوب جزء من شخصية المرء لا يملك أن يحور فيه , ولا أن يعدل , وهذا أمر ملموس مقرر ؛ إذ أنك لو جئت لإنسان درس أسلوب شاعر ما بأبيات لم يسبق أن اطلع عليها فسرعان ما يحكم على أنها من شعره ... فالحديث النبوى صورة جديدة مبتكرة فى البيان العربى ... جارية على قواعد العرب وطريقتهم فى التركيب ... فلو خلطت سورة أو جملة آيات بمجموعة أخرى من الكلام العربى لاستطعت أن تميزها بسهوله . أما الحديث النبوى : فكثيراً ما يشبه أسلوبه أسلوب سائر الأقوال , والحكم المأثورة إذا كانت بليغة , ومن هنا أمكن الوضع فى الحديث " ([6] ) ولقد ساق الأستاذ الزرقا عدة أمثلة من القرآن والسنة ليظهر من خلالها الفرق العظيم والبون الشاسع بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث. ولن أسوق هنا نماذج وأمثلة , فالقرآن بين أيدينا , والحديث كذلك بين أيدينا , وليقرأ المسلم ويتأمل ليظهر له أن القرأن من الأمر الإلهى , وأن الحديث النبوى من الكـــلام البشرى , ولكــنه فى قمة البيان الإنسانى . هذه حقيقة عرفها الناس منذ نزول القرآن , وعرفوا أن القرأن كلام الله منذ الوهلة الأولى لما كان صناديد المشركين يستمعون للقرآن خلسة من وراء بعضهم كما كان يفعل أبوجهل عمر بن هشام , والأخنس بن شريق , وأبوسفيان بن حرب قبل إسلامه , وكما قال الوليد بن المغيرة فى وصفه : " إن له لحلاوة , وإن عليه لطـلاوة , وإن أعلاه لمثمر , وإن أسفله لمغدق , وإنه ليعلو ولا يعلى عليه , وإنه ليحطم ما تحته " ([7] ) فكانوا يدركون الفرق بين أسلوب النبى صلى الله عليه وسلم الذى تربى بينهم وعرفوه وعرفوا نهجه فى كلامه ,و بين أسلوب القرآن الذى نزل من السماء , ولقد سجل القرآن هذا الحق والصواب على فلتات ألسنتهم , فقال تعالى : ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ) ( الفرقان : 32), وقال تعالى على لسانهم أيضاً : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم )(الزخرف : 31) فجاءوا باسم القرآن فى كلامهم , ولكن استكبارهم منعهم من الإيمان , ولقد ذكر بعض المفسرين أنهم ذكروا القرآن باسمه الصريح على سبيل الاستهزاء ([8] ) , ولو كان هذا مقصدهم فلا يمنع من اعتقادهم صدق القرآن ومبلغه بدليل أنهم قالوا : (... لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم) ([9] ) فتمنوا فى أنفسهم أن يكون لهم هذا الشرف , وأن يحوزوا هذه المنقبة , ولما كانت لغيرهم ممن هو أهل لها عارضوه واستهزؤا به وبالقرآن بعد أن كانوا يدعونه بينهم بالصادق الأمين ويحفظون ودائعهم عنده !


(1) فمن القدامى : الباقلانى فى كتابه إعجاز القرآن . ومن المحدثين : الأستاذ . مصطفى صادق الرافعى فى كتابه إعجاز الفرآن والبلاغة النبوية , وأ. د. محمد عبد الله دراز فى كتابه النبأ العظيم , والأستاذ . مصطفى الزرقا فى رسالته فى الحديث النبوى , وأ. د. محمد رجب البيومى فى كتابه البيان النبوى , وأ. د. معروف الدواليبى فى كتابه المدخل إلى أصول الفقه , والعلامة الزرقانى فى كتابه مناهل العرفان , وأ. د. محمد لطفى الصباغ فى كتابه الحديث النبوى مصطلحه وبلاغته وكتبه .
(2) ينظر الحديث النبوى مصطلحه وبلاغته وكتبه ص 100
(3) ينظر إعجاز القرأن ص 154,127
(1) ينظر إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص 276- 279
(1) ينظر النبأ العظيم ص 100,99
(2) ينظر الحديث النبوى مصطلحه وبلاغته وكتبه ص 102- 107نقلاً عن كتاب فى الحديث النبوى ص 75- 78للأستاذ / مصطفى الزرقا .
(1) يراجع هذه الآثار والتعليق عليها فى كتاب البيان القرآنى أ. د. محمد رجب البيومى – ط مجمع البحوث الإسلامية – (1391)هـ (1971)م .
(2) ذكر ذلك الزمخشرى فى تفسير آية سورة الزخرف . الكشاف 4/252
(3) والقريتان هما مكة والطائف . ورجلا القريتين هما : الوليد بن المغيرة المخزومى , وحبيب بن عمير الثقفى وقيل : عتبة بن ربيعة , وكنانة بن عبد ياليل , وقيل الوليد بن المغيرة , وعروة بن مسعود الثقفى . الكشاف 4/252,251


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق