الخميس، 9 أبريل 2009

الفصل الأول : الأصالة والمعانى فى الحديث

بعد أن وقفنا على أبرز الخصائص البلاغية للبيان النبوى فى الباب الرابع , نتحدث هنا عن الأصالة فيه . والأصالة وإن كانت من خصائص الأسلوب فى الحديث إلا أنى آثرت إلحاقها بالمعانى فى الحديث نظراً للارتباط بينهما – فيما يبدو لى – فالأصالة : الابتكار . والمعانى فى الحديث تتميز بالابتكار والتجديد , وسيتضح لنا ذلك من خلال التطبيق . ولكن قبل ذلك لابد من بيان معنى الأصالة .
معنى الأصالة : الأصالة : مصدر أصل , والأصل : أسفل الشئ كأصل الجبل . والأصالة فى النسب : العراقة . وفى الأسلوب : الابتكار والتميز . وفى الرأى : جودته وإحكامه . والأصالة بفتح الهمزة وكسرها : الثبات وجودة الرأى . والأصالة : العقل ([1] ) , فمعانى الأصالة تدور حول الابتكار , والجودة , والإحكام , والثبات .
أما عن الأصالة كخصيصة من خصائص الأسلوب : فلقد ذكر الأستاذ الزيات " أن الأصالة : أن يكون أسلوب الرجل خاصاً به , لا ينهج فيه نهج غيره , وأن تكون فى عباراته طرافة وجدة مع حلاوة ملموسة تحمل من يأتى بعده على اقتباسها واستعمالها . ويراد بالأصالة فى الأسلوب بناؤه على ركنين أساسيين : من خصوصية اللفظ , وطرافة العبارة . وتلك هى الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ . وملاك الأصالة أن لا تكتب كما يكتب الناس , وأن تكون أصيلاً فى نظرتك وكلمتك وفكرتك وصورتك ولهجتك , فلا تستعمل لفظاً عاماً , ولا تعبيراً محفوظاً , ولا استعارة مشاعة . أما خصوصية اللفظ فهى دلالته التامة على المعنى المراد , ووقوعه الموفق فى الموقع المناسب . وآية مطابقته لمعناه ومبناه أنك لا تستطيع أن تبدله , ولا أن تنقله . والخصوصية فى اللفظ أصل الدقة فى التعبير , والوضوح فى المعنى , والصدق فى الدلالة ؛ لأن الكلمة إذا تمكنت فى موضعها الأصيل دلت على المعنى كله , فإذا حشرت فيه حشراً , أو قسرت عليه قسراً دلت على بعض المعنى أو أبانت عن غيره . وفى اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع ؛ لأن الكلمة ميتة ما دامت فى المعجم , فإذا وصلها الكاتب أو الأديب أو الشاعر بأخواتها فى التركيب ووضعها فى موضعها الطبيعى من الجملة
دبت فيها الحياة , وسرت فيها الحرارة , وظهر عليها اللون ([2] ) . أما الركن الآخر : طرافة العبارة فأسه الابتكار فى حكاية الخبر , وتصوير الفكر , وتقويم الموضوع , وهيهات أن تجد الجملة المبتكرة التى تثير الإعجاب , وتحدث الأثر , وتحرك الفتنة إلا إذا وجدت الكلمة الخاصة التى تحدد الفروق , وتجدد العلاقة , وتبعث الحركة .
أما عن الأصالة فى البيان النبوى فما أروعها وأبدعها , فلقد ابتكر النبى صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأساليب التى لم يسبق إليها , ولم تسمع من عربى قبله . ومن هذه الأصالة ما جاء فى باب الإيجاز وجوامع الكلم , ومنها ما جاء فى باب التصوير وضرب الامثال , ومنها ما سار بين الناس مسار الحكمة . والبيان النبوى حافل بكل هذه الأنواع , وقد مضت الإشارة إلى ذلك فى فصل الإيجاز من الباب السابق , وفى فصل التصوير رأينا دقة التصوير النبوى وتفرده فى بابه , وكذلك فى فصل الوصف رأينا ما تميز به من الأصالة والابتكار .

ومن شواهد الأصـالة : قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين " ([3] ) فهذا الحديث يسير اليوم بين الناس مسرى المثل , ويستشهدون به فى المواقف التى تناسبه . ومقصد النبى من هذا الحديث : أن المؤمن الممدوح الكيس الحازم لا يستغفل فيخدع مرة بعد أخرى , ولا يفطن لذلك . وقيل إن المراد من الحديث النهى : أى لا يخدعن المؤمن ولا يؤتين من ناحية الغفلة فيقع فى مكروه , وهذا يصلح أن يكون فى أمر الدنيا وأمر الآخرة . وإذا ذهب إلى النهى فى الحديث خيل أنه صلوات الله عليه لما رأى من نفسه الزكية الميل إلى الحلم والعفو عنه ([4] ) جرد منها مؤمناً كاملاً ذا شهامة , ونهاه عن ذلك تأنيباً , يعنى ليس من شيمة المؤمن الحازم الذى يغضب لله ويذب عن دين الله أن ينخدع من مثل هذا الغادر المتمرد مرة بعد أخرى , فانته عن حديث الحلم وامض لشأنك فى الانتقام منه والانتصار من عدو الله , فإن مقام التجربة والغضب يأبى التحلم والعفو . وفهم منه أن هناك مقاماً التحلم والتساهل فيه محمود بل مندوب إليه , وذلك مع المؤمنين من استعمال العفو والحلم وخفض الجناح قال الله تعالى : (... وإذا ما غضبوا هم يغفرون ) ( الشورى : 37) فيجتمع لهم لين الجانب مع الأولياء , والغلظة مع الأعداء , قال تعالى ( ... أشداء على الكفار رحماء بينهم ...) ( الفتح : 29) , وقال : (... أذلة على المؤمنـين أعزة على الكافرين... ) ( المائدة : 54) ([5] ) ويلاحظ هنا الثراء فى المعنى , مع التجديد والابتكار فى الأسلوب حيث عبر هنا عن الخداع بــ " اللدغ " وهو عض الحية , ويطلق على الرجل الطعان فى أعراض الناس . فليتأمل فى روعة التصوير النبوى !
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " هذا حين حمى الوطيس " ([6] ) " ويقصد النبى بذلك اشتدت الحرب وعظم الخطب , وهو مجاز , لأن الوطيس فى كلامهم حفيرة تحتفر فيوقد فيها النار للاشتواء , ولا وطيس على الحقيقة , وإنما المراد شدة المصاع والتفاف الأبطال , واختلاط الرجال , ومن هنا قالت العرب : أوقدت نار الحرب بين آل فلان وآل فلان , وقال الله سبحانه مخرجاً للكلام على مطارح لسانهم ومعارف أوضاعهم : ( ... كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله...) ( المائدة : 64). وتشبيه الحرب بالنار يكون من وجهين : أحدهما : لحر مواقع السيوف , وكرب ملابس الدروع , وحمى المعترك لشدة العراك وكثرة الحركات والوجه الآخر : أن يكون إنما شبهت بالنار لأنها تأكل رجالها , وتفنى أبطالها كما تأكل النار شعلها , وتحرق حطبها " ([7] )

وهذا غيض من فيض مما يزخر به البيان النبوى من الأصالة والابتكار , ومما انفرد به النبى صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبلاغة , ولم يسمع عن أحد قبله من العرب , ولم يتفق لأحد منهم فى حسن بلاغتها وقوة دلالتها , وغرابة القريحة اللغوية فى تأليفها وتنضيدها , وهذه الاحاديث وغيرها قد صار مثلاً وأصبح ميراثاً خالداً فى البيان العربى ([8] )
المعانى فى الحديث النبوى : النبى صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه , مبين لأمره ونهيه , ولابد من أن يكون لديه من قوة الحجة , ووضوح البيان ما يتناسب مع هذه الرسالة العظيمة والغاية النبيلة الشريفة , ولقد سبق بيان ذلك عند الحديث عن جوامع الكلم فى بيانه صلى الله عليه وسلم , فلا حاجة لإعادة الكلام فيه هنا . ولكن ما يعنينا هنا هو الحديث عن المعانى فى بيانه صلى الله عليه وسلم , وتوضيح ذلك من الأهمية بمكان لأن النبى صلى الله عليه وسلم برسالته قد ختمت رسالات السماء إلى الأرض , فلابد من أن يكون بيانه واضحاً للعام والخاص , وأن تكون معانيه مما يناسب تطور الأزمنة , وتغير الأمكنة , وأن يراعى فى معانيه الاختلافات الفكرية بين بنى البشر , كما يراعى فيه اختلاف المجتمعات , والأعراف والعادات . والمعانى الحديثية بما فيها من خصائص وسمات تدل على سمو هذا البيان , وسمو النفس التى خرجت منها , وصدق الله إذ يقول : ( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى ) ( النجم :4,3) .
ومن أبرز خصائص المعانى فى بيانه صلى الله عليه وسلم : أولاً : السهولة والوضوح : فالحديث النبوى بيان من رب الناس على لسان خير الناس لخير الناس , وصلاحهم فى الدنيا وسعادتهم فى الآخرة . وليست معانى الحديث لفئة دون فئة , أو مجتمع دون مجتمع , أو لجيل دون جيل , أو لأصحاب الفهوم العالية دون من سواهم , بل هى لهداية الناس كافة , لكل أبيض وأحمر , وعربى وعجمى , حيث يقول تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) ( النحل : 44) ([9] ) وهذه الخصيصة من خصائص المعانى فى الحديث النبوى لا تحتاج إلى تمثيل لأنها مطردة وواضحة , وظاهرة , ويكفى فيها أى مثال من الحديث . ولنأخذ مثلاً قوله صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أوليصمت , ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره , ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " ([10] ) إن معانى هذا الحديث من الوضوح والظهور بمكان , فهى تحض على النطق بما يرضى الله من الأقوال , وتبين أن قول الخير من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر , وأن الصمت عن الشر مما يرضى الله , كما تبين أن إكرام الجار من الإيمان بالله واليوم الآخر , وكذلك إكرام الضيف . وهذا الحديث يشير من جانب آخر إلى أن الإيمان أقوال وأعمال وهذه الأعمال بضع وستون أوبضع وسبعون شعبة كما جاء فى الحديث الصحيح . وخذ مثلاً آخر , قوله صلى الله عليه وسلم : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً " ([11] ) ففى الحديث بيان أن من حث على فعل الخير بالقول أو الفعل فإن الله يكتب له من الأجر مثل أجور من استجاب لدعوته , وفيه مضاعفة الأجر لمن تعلم العلم وعلمه لعموم فضله , وكثرة نفعه . وخذ مثلاً فى الترهيب والتحذير قوله صلى الله عليه وسلم : " أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما " ([12] ) ففى الحديث التحذير من رمى المسلم بالكفر , وأن كلمة الكفر ترجع إلى قائلها إن لم تكن فى أخيه . وفى مقام بيان علامات الساعة . يقول صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها , فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون , وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها " ثم قرأ الآية ([13] ).

ولكن معانى بعض الأحاديث مع وضوحها قد تحتاج إلى توضيح وبيان من أولى العلم الذين فهموا عن الله ورسوله , ومن ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم : " سباب المسلم فسوق , وقتاله كفر " ([14] ) فمعنى الحديث أن سب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة , وفاعله فاسق كما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم . ولكن الكفر هنا يحتاج إلى توضيح . فقتاله بغير حق لا يكفر به عند أهل الملة إلا إذا استحله . ومن هنا قال العلماء فى تأويل الكفر فى الحديث أكثر من قول . أحدها : أنه فى المستحل . والثانى : أن المراد كفر الإحسان والنعمة وأخوة الإسلام لا كفر الجحود . والثالث : أنه يؤدى إلى الكفر بشؤمه . والرابع : أنه كفعل الكفار ([15] ) وقد يأتى التوضيح من النبى صلى الله عليه وسلم كما فى الحديث " أتدرون من المفلس ؟ " ([16] ) وحديث " أتدرون ما الغيبة ؟ " ([17] ) , وحديث " أتدرون ما الكوثر ؟ " ([18] ) , وهذه الأحاديث سهولتها جاءت من توضيح النبى صلى الله عليه وسلم لمعانيها . أما توضيح العلماء لبعض الأحاديث التى تشكل على أفهام بعض الناس فإنما هو بما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم من أحاديث أخرى تتصل بالموضوع , أو بالقرائن التى يعرفها أولوا العلم , أو بالجمع بين الأحاديث , أو غير ذلك مما يعرفه أولوا العلم والدراية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهم الذين يعرفون المطلق والمقيد , والعام والخاص , والناسخ والمنسوخ , وغير ذلك مما يحتاج إليه فى معرفة وفهم الحديث النبوى .

ثانياً : التنوع والشمول : فالنبى صلى الله عليه وسلم بدعوته جاء لهداية البشرية وإرشادها فى معاشها ومعادها . ومن هنا نجد معانى الحديث النبوى تتناول شؤون الدين والدنيا , فلا تقتصر معانيه على ما يتصل بالدين وحده أو الدنيا وحدها , بل تتنوع فيه المعانى وتختلف , فنجد من الحديث ما يتحدث عن الصلاة , أو الزكاة , أو الحج , أو غير ذلك من العبادات . ونجد من الأحاديث الأخرى ما يتحدث عن الأخلاق كالحياء, والصدق , والصبر , والحلم , وغير ذلك . ومن الأحاديث الأخرى ما يتحدث عن المعاملات كالبيع , والسلم , والضمان , وغير ذلك . ومن الأحاديث ما يتصل بالآخرة كالجنة والنار, وغير ذلك , والمقام يضيق عن الحصر . ويضاف إلى ذلك غزارة المعانى فى الأحاديث , فحديث واحد يتضمن من الأفكار والمعانى الكثير والكثير ؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم أوتى جوامع الكلم , وخذ مثلاً حديث " إنما الأعمال بالنيات " الذى قال عنه الشافعى : " هذا الحديث ثلث العلم , ويدخل فى سبعين باباً من أبواب الفقه " ([19] ) , وغير ذلك من أحاديث جوامع الكلم وغيرها .

ثالثاً : المرونة والسعة : وهذه الخصيصة مما تميزت به المعانى فى الحديث النبوى , السعة والمرونة والقابلية لتعدد الأفهام , وهذه السعة والمرونة مماييسر ويوسع على الأمة فى العمل وفى ذلك إثراء للمعنى . وهذه ميزة من الميزات التى اختص بها الإسلام بشكل عام , والحديث النبوى بشكل خاص . ومن ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة " ([20] ) فأدرك بعضهم العصر فى الطريق وقال بعضهم : لا نصلى حتى نأتيها, وقال بعضهم : بل نصلى لم يرد منا ذلك . فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فلم يعنف أحداً منهم . فمن الصحابة من نظر إلى ظاهر اللفظ وحقيقته فأخر الصلاة إلى وقت العشاء , ومنهم من نظر إلى المعنى لا إلى اللفظ فصلوا حين خافوا فوات الوقت . وهنا نلمح أن معنى الحديث يحتمل الأمرين , وهذا الاحتمال مما أدى إلى مرونة الحديث وسعة معناه ليشمل كلا الفريقين . وهذا مما يعد من محاسن الإسلام . ومن هنا أخذ العلماء من هذا الحديث أحكاماً تتعلق بالاجتهاد ذكرها الإمام النووى فى شرح صحيح مسلم , والحافظ ابن حجر فى شرح صحيح البخارى .

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام : " أسلمت على ما سلف من خير " ([21] ) فهذا الحديث فيه أكثر من معنى . إما أن يكون ظاهره أن الخير الذى أسلفت كتب لك , والتقدير : أسلمت على قبول ما سلف لك من خير . وإما أن يكون معناه ما تقدم من الخير الذى عملته هو لك كما تقول : أسلمت على أن أحوز لنفسى ألف درهم . وأما من قال : إن الكافر لا يثاب فحمل معنى الحديث على وجوه أخرى منها : أن يكون المعنى أنك بفعلك ذلك اكتسبت طباعاً جميلة فانتفعت بتلك الطباع فى الإسلام , وتكون تلك العادة قد مهدت لك معونة على فعل الخير , أو انك اكتسبت بذلك ثناء ً جميلاً , فهو باق لك فى الإسلام , أو أنك ببركة فعل الخير هديت إلى الإسلام لأن المبادئ عنوان الغايات , أو أنك بتلك الفعال رزقت الرزق الواسع ([22] )

ومن ذلك أيضاً ما رواه أبو هريرة قال : جاء ناس من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فسألوه إنا نجد فى أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال : " وقد وجدتموه " قالوا : نعم . قال : " ذاك صريح الإيمان " ([23] ) فقوله صلى الله عليه وسلم : " ذاك صريح الإيمان " , و " محض الإيمان " ([24] ) معناه : استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان , فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً , وانتفت عنه الريبة والشكوك . والرواية الثانية وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد , وهى مختصرة من الرواية الأولى . وقد يكون المعنى أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه . وأما الكافر فإنه يأتـيه من حيث شاء , ولا يقتصر على الوسوسة , بل يتلاعب به كيف أراد , فعلى هذا معنى الحديث : سبب الوسوسة محض الإيمان , أو الوسوسة علامة محض الإيمان ([25] )

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن يأكل فى معى واحد , والكافر يأكل فى سبعة أمعاء " ([26] ) فلقد اختلف العلماء فى معنى الحديث , وفى المقصود بـ " المعى الواحد للمؤمن والأمعاء السبعة للكافر" ومما ذكروه : أولاً : أن الحديث خرج مخرج الغالب , وليست حقيقة العدد مرادة , وتخصيص السبعة للمبالغة فى التكثير كما فى قوله تعالى : ( ... والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ... ) ( لقمان : 27) , والمعنى أن من شأن المؤمن التقلل من الأكل لاشتغاله بأسباب العبادة , ولعلمه بمقصود الشرع من الأكـل , والكافرعلـى خـلاف ذلك . ثانياً : أن المراد بالمؤمن فى هذا الحديث التام الإيمان ؛ لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده , فيمنعه الخوف , وكثرة الفكر , والإشفاق على نفسه من استيفاء شهواته . ثالثاً : أن المؤمن يسمى الله عند طعامه وشرابه فلا يشركه الشيطان , فيكفيه القليل , والكافر على العكس من ذلك . رابعاً : أن المؤمن يقل حرصه على الطعام , فيبارك له فيه وفى مأكله فيشبع منه , والكافر على العكس من ذلك . خامساً : قال النووى : المختار أن المراد أن بعض المؤمنين يأكل فى معى واحد , وأن أكثر الكفار يأكلون فى سبعة أمعاء ولا يلزم أن يكون كل واحد من السبعة مثل معى المؤمن. سادساً : قال النووى يحتمل أن يراد بالسبعة فى الكافر صفات هى : الحرص , والشره , وطول الأمل , والطمع ,وسؤ الطبع ,والحسد ,وحب السمن ,وبالواحد فى المؤمن سد خلته إلخ ما ذكروه ([27] )

رابعاً : السمو والرفعة والشرف : فمعانى الحديث إما أن تدعو إلى فعل أمر من الأمور التى يرضاها الله ورسوله , وإما أن تدعو إلى ترك أمر من الأمور التى يبغضها الله ورسوله . فمعانيه سامية رفيعة القدر , شريفة الذكر ؛ لأنها تدعو إلى طريق الهدى والصلاح والإصلاح , وتحض على فعل الطاعات , وتنهى عن المعاصى والمنكرات . والاستدلال لهذا المعنى من السعة بمكان , ويكفى فيه مراجعة حديث فى أمر من الأمور التى حض عليها الإسلام كصلة الرحم , والإحسان إلى الجار , والصدق فى الحديث إلخ . ومراجعة حديث فى نهى من النواهى التى أمر الشرع باجتنابها كالكذب , والغيبة , والحسد , والرياء إلخ .

خامساً : القوة والفخامة , والعظمة والأصالة : فمعانيه قوية مجلجلة , أصيلة لأنها هادفة فى كل ما تدعو إليه أو تنهى عنه , فكلها خير وهدى للناس . فهى تؤصل أصول الفضائل والأخلاق , وتدعو إلى ترك الرذائل وسوء الأخلاق , ولا نجد معنى فى الحديث بغير هدف أو فائدة أوغاية نبيلة , بل على العكس إما أن تدعو إلى ترسيخ فضيلة أو محو رذيلة , وكلها صواب لأنها تدعو إلى سلوك الطريق القويم والصراط المستقيم , وكلها قوة لأنها تدعو إلى الهدى والصلاح فى الدنيا لسعادة الآخرة , وهو أمر مهم وجد خطير لما فى الصلاح من قوة للمؤمن على وجه الخصوص , وقوة للمجتمع على وجه العموم . وهذا ما أكسب معانى الحديث قوتها من ناحية وأصالتها من ناحية أخرى ؛ لأنها خرجت من مشكاة النبوة على لسان من لا ينطق عن الهوى , إن هو إلا وحى يوحى . فعصمة مصدرها , وسمو هدفها , وقوة تركيزها أكسبها الأصالة والقوة . والأمر هنا أوضح من الشمس لذى عينين فلا يحتاج إلى الاستشهاد له , فليأخذ المسلم أى حديث من الاحاديث , ويتأمل فيه ليرى هذه الخصيصة فى المعنى ([28] )

(1) ينظر اللسان مادة " أصل " , وأساس البلاغة , والمصباح المنير , والمحيط لأديب اللخمى , والغنى لأبى العزم .
(1) الحديث النبوى مصطلحه وبلاغته وكتبه ص 98,97نقلاً عن دفاع عن البلاغة ص 81- 89
(2) متفق عليه من حديث أبى هريرة . وانظره فى مشكاة المصابيح ح ( 5053) 9/225
(3) أى عن أبى عزة الشاعر لأن سبب ورود الحديث أن النبى أسره يوم بدر ثم من عليه وعاهده أبو عزة على ألا يعود إلى هجائه والتحريض عليه , وعاد بعد ذلك فأسر يوم أحد فسأل الرسول أن يمن عليه فقال النبى " لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين " ويلدغ : يروى بضم الغين على الخبر , وبكسرها على النهى . صحيح مسلم بشرح النووى 18/124
(1) ينظر صحيح مسلم بشرح النووى – باب فى أحاديث متفرقة – 18/124, وشرح الطيبى على مشكاة المصابيح 9/260,259
(2) أخرجه مسلم – كتاب الجهاد – باب غزوة حنين – 12/116 . وانظر شرح صحيح مسلم للنووى 12/116
(3) ينظر المجازات النبوية ص 45
(4) ولمزيد من التفصيل ينظر إعجاز القرآن والبلاغة النبوية فى موضوع " تأثير النبى صلى الله عليه وسلم فى اللغة " ص 262- 269
(1) يقول ابن كثير فى تفسير قوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ... ) أى من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله عليك , وحرصك عليه , واتباعك له , ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق , وسيد ولد آدم , فتبين لهم ما أجمل , وتفصل لهم ما أشكل . تفسير ابن كثير 2/524, وتفسير القرطبى 9/72
(2) متفق عليه من حديث ابن مسعود . اللؤلؤ والمرجان ح ( 43) 1/13
(1) متفق عليه من حديث أبى هريرة . اللؤلؤ والمرجان ح ( 97) 1/31
(2) متفق عليه من حديث ابن عمر . اللؤلؤ والمرجان ح (39) 1/13
(3) متفق عليه من حديث أبى هريرة . اللؤلؤ والمرجان ح ( 97) 1/31
(4) متفق عليه من حديث ابن مسعود . اللؤلؤ والمرجان ح ( 43) 1/13
(5) انظر صحيح مسلم بشرح النووى 2/54
(6) أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة – باب تحريم الظلم – 16/135
(1) أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة – باب تحريم الغيبة – 16/142
(2) أخرجه مسلم من حديث أنس – باب حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة – 4/112
(3) وهذا الحديث متفق عليه من حديث عمر , وانظر شرحه فى جامع العلوم والحكم ص 7- 26
(1) أخرجه البخارى من حديث ابن عمر – كتاب الجمعة – أبواب صلاة الخوف – ح ( 923) – 2/506 - وفى كتاب المغازى – باب مرجع النبى من الأحزاب ومخرجه إلى بنى قريظة – ح ( 3969) – 7/471, وأخرجه مسلم – باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين – 12/97. ولكن فى لفظ مسلم ذكر صلاة الظهر بدلاً من صلاة العصر . وقد جمع النووى بين الروايتين على أن هذا الأمر كان بعد دخول وقت الظهر وقد صلى الظهر بالمدينة بعضهم دون بعض فقيل للذين لم يصلوا الظهر : لا تصلوا الظهر إلا فى بنى قريظة , وللذين صلوا بالمدينة : لا تصلوا العصر إلا فى بنى قريظة . ويحتمل أنه قيل للجميع : لا تصلوا العصر ولا الظهر إلا فى بن قريظة , ويحتمل أنه قيل للذين ذهبوا أولاً لا تصلوا الظهر إلا فى بنى قريظة وللذين ذهبوا بعدهم لا تصلوا العصر إلا فى بنى قريظة.وأما اختلاف الصحابة رضى الله عنهم فى المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها فسببه أن أدلة الشرع تعارضت عندهم بأن الصلاة مأمور بها فى الوقت مع أن المفهوم من قول النبى : " لا يصلين أحد الظهر أو العصر إلا فى بنى قريظة " المبادرة بالذهاب إليهم , وأن لا يشتغل عنه بشئ لا أن تأخير الصلاة مقصود فى نفسه من حيث إنه تأخير , فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظراً إلى المعنى لا إلى اللفظ , فصلوا حين خافوا فوات الوقت , وأخذ آخرون بظاهر اللفظ وحقيقته فأخروها , ولم يعنف النبى واحداً من الفريقين لأنهم مجتهدون , ففيه دلالة لمن يقول بالمفهوم , والقياس , ومراعاة المعنى , ولمن يقول بالظاهر أيضاً , وفيه أنه لا يعنف المجتهد فيما فعله باجتهاده إذا بذل وسعه فى الاجتهاد , وقد يستدل به على أن كل مجتهد مصيب , وللقائل الآخر أن يقول : لم يصرح بإصابة الطائفتين , بل ترك تعنيفهم , ولا خلاف فى ترك تعنيف المجتهد إن أخطأ إذا بذل وسعه فى الاجتهاد . صحيح مسلم بشرح النووى 12/98. ولقد ذكر ابن القيم فى الهدى أن كلا الفريقين مأجور إلا أن من صـلى حاز الفضـيلتين : امتثال الامر فى الإسراع , وامتثال الأمر فى المحافظة على الوقت . فتح البارى 7/474
(2) سبق تخريجه عند بحث الجناس فى الحديث النبوى . ص 115
(1) انظر صحيح مسلم بشرح النووى 2/141,140, وفتح البارى 3/354
(2) أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة – باب بيان الوسوسة فى الإيمان وما يقوله من وجدها – 2/153.
(3) وهذا اللفظ رواية لمسلم من حديث علقمة بن عبد الله قال : سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال " تلك محض الإيمان " 2/153
(4) انظر صحيح مسلم بشرح النووى 2/154
(5) متفق عليه من حديث ابن عمر . أخرجه البخارى – كتاب الأطعمة – باب المؤمن يأكل فى معى واحد – ح ( 5195) – 9/447,446, وأخرجه مسلم – باب المؤمن يأكل فى معى واحد والكافر يأكل فى سبعة امعاء – 14/14- 26. وفى رواية لمسلم من حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف وهو كافر , فأمر له رسول الله بشاة فحلبت , فشرب حلابها ... حتى شرب حلاب سبع شياه , ثم إنه أصبح فأسلم , فأمر له رسول الله بشاة فشرب حلابها , ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها , فقال رسول الله : " المؤمن يشرب فى معى واحد , والكافر يشرب فى سبعة أمعاء " 14- 26
(1) انظر صحيح مسلم بشرح النووى 14/14- 26, وشرح الطيبى على المشكاة 8/150, وفتح البارى 9/494- 451, والمجازات النبوية ص 248
(1) ولقد ذكر الأستاذ الدكتور / محمد لطفى الصباغ أن فى معانى الحديث صفات قل أن تجتمع فى كلام سواه . ومن هذه الصفات : الغنى فى الأفكار , والعمق , والجدة , والانسجام , والتسلسل , والغوص فى أعماق النفس الإنسانية , وملامسة أبعاد النفس . الحديث النبوى مصطلحه وبلاغته , وكتبه ص 54- 58

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق