الخميس، 9 أبريل 2009

نظرية النظم

مما هو معلوم أن علم البلاغة من العلوم التى نشأت بتأثير القرآن الكريم، فهو يقوم على إبراز ما فيه من وجوه الجمال التى يمتاز بها كلام الله من كلام البشر، ويبين ما فيه من أسرار الإعجاز، ولقد كان لحركة الترجمة ونقل العلوم إلى اللسان العربى أثر فى هذا العلم، حيث كان الكلام فى القرآن وإعجازه من أهم مظاهر الخصومة بين العرب وغيرهم، ويضاف إلى ذلك النزاع القائم بين أهل السنة والمعتزلة حول إعجاز القرآن وهل هو بالنظم أو بالصرفة(1). والصواب الذى عليه جمهور العلماء أن إعجاز القرآن بنظمه، وصحة معانيه، وتوالى فصاحة ألفاظه(2). ولأهمية نظرية النظم وارتباطها بمسائل علم المعانى توفر العلماء على دراسة النظم القرآنى، وبيان مدخله فى الإعجاز. وعن هذه الصلة بين علم المعانى والنظم يقول الأستاذ الدكتور شوقى ضيف : "إن عبد القاهر سمى علم المعانى فى الدلائل باسم "النظم" وهو اصطلاح كان يشيع فى بيئة الأشاعرة، إذ يعللون إعجاز القرآن بنظمه"(3).


وأول من ألف فى نظم القرآن والاحتجاج له الجاحظ ت(255)هـ(4). ولقد ذهب إلى أن إعجاز القرآن فى نظمه، وكتبه من النفائس المفقودة من تراثنا العلمى، ويقول عنه أبو الحسين الخياط(5): "لا يعرف كتاب فى الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه، وأنه حجة لمحمد صلى الله عليه وسلم على نبوته غير كتاب الجاحظ(6).
ولقد أشار إليه الزمخشرى فى مقدمة الكشاف بقوله(1): "لا ندرى ماذا كان يتصور الجاحظ عن النظم فى كتباه هذا" واقتفى أثر الجاحظ بعد ذلك أبو بكر بن أبى بكر داود السجيستانى ت(316)هـ، وأبو يزيد المبلجى ت(322)هـ، وأبو بكر أحمد بن على المعروف بابن الإخشيدت (326)هـ فتكلموا عن إعجاز القرآن فى كتب تحمل عنوان "نظم القرآن" كما اختاره الجاحظ"(2).

أما أول من جوَّد الكلام فى إعجاز القرآن فهو عبد الله محمد بن يزيد الواسطى ت(306)هـ فى كتابه "إعجاز القرآن فى نظمه" ولقد شرحه الإمام عبد القاهر شرحاً كبيراً سماه "المعتضد"، وشرحاً أصغر منه، والغالب أن الواسطى بنى على ما ابتدأه الجاحظ، ولولا أن الإمام عبد القاهر وجد فى كتاب الوسطى ما يوافق فهمه للنظم ما شرحه مرتين(3). كما تكلم الإمام الخطابى ت(388)هـ فى النظم وألف رسالته "بيان إعجاز القرآن" وذكر أن النظم يقوم بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم. فالقرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ فى أحسن نظوم التأليف مضمناً أصح المعانى …(4). كما صنف الإمام على بن عيسى الرمانى ت(386) رسالته "النكت فى إعجاز القرآن" دفاعاً عن القرآن، وإبرازاً لوجوه الإعجاز، ولقد حصر الرمانى وجوه الإعجاز فى سبع جهات هى: "ترك المعارضة مع توفر الدواعى وشدة الحاجة، والتحدى للكافة، والصرفة، والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة والبلاغة على ثلاث طبقات: منها ما هو فى أعلى طبقة، ومنها ما هو فى أدنى طبقة، ومنها ما هو فى الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة. فما كان فى أعلاها طبقة فهو معجز، وهو بلاغة القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس … والبلاغة إيصال المعنى إلى القلب فى أحسن صورة من اللفظ …(5). ثم جاء القاضى أبو بكر الباقلانى ت(403)هـ فوضع كتابه المشهور "إعجاز القرآن" وذكر فى الوجه الثالث من وجوه إعجاز القرآن أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه فى البلاغة إلى الحد الى يعلم عجز الخلق عنه(6). فالنظم عند الإمام الباقلانى يعنى به طريقة الكلام وأسلوبه، فهو مقابل للشعر والسجع والكلام المرسل، فالقرآن معجز بنظمه أى بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم، فهو خارج عن العادة ومعجز بهذه الخصوصية التى ترجع إلى جملة القرآن، وتحصل فى جميعه (7) ثم جاء بعد ذلك القاضى أبو الحسن عبد الجبار المعتزلى ت(415)هـ فبحث مسألة اعجاز القرآن فى كتابه "المغنى فى أبواب التوحيد والعدل" وقد نقل عن شيخه أبى هاشم كلاماً فى النظم يخالف ما رآه أبو بكر محمد بن الطيب، فالإعجاز كما يراه يرجع إلى جزالة اللفظ وحسن المعنى اللذين تتحقق بهما الفصاحة وليس فصاحة الكلام بأن يكون له نظم مخصوص، بأن الخطيب عنده قد يكون أفصح من الشاعر، والنظم مختلف إذا أريد بالنظم اختلاف الطريقة، وقد يكون النظم واحداً وتقع المزية فى الفصاحة(1). ويقول عبد الجبار: "اعلم أن الفصاحة لا تظهر فى أفراد الكلام وإنما تظهر فى الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولابد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة وقد يجوز فى هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التى تتناول الضم وقد تكون بالإعراب الذى له مدخل فيه، وقد تكون بالموقع...(2)" وكلام القاضى عبد الجبار يقترب اقتراباً شديداً من كلام الامام عبد القاهر ت (474)هـ فى تفسيره للنظم فى كتابه "دلائل الإعجاز" كما يقول الأستاذ الدكتور/ شوقى ضيف وبهذا نصل إلى الإمام عبد القاهر الجرجانى الذى بسط نظرية النظم، وبناها على ارتباط الكلام بعضه ببعض، وبناء الثانى على الأول يقول: "واعلم انك إذا رجعت إلى نفسك علمت علماً لا يعترضه الشك أن لا نظم فى الكلام ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك. هذا ما لا يجهله عاقل، ولا يخفى على أحد من الناس"(3) ثم يوضح أن النظم لا يكون إلا بتوخى معانى النحو، فيقول: "اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التى نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التى رسمت لك فلا تخل بشئ منها، وذلك أنا لا نعلم شيئاً يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر فى وجوه كل باب وفروقه، فينظر فى الخبر إلى الوجوه التى تراها فى قولك: "زيد منطق" و"زيد ينطلق"، و"ينطلق زيد"، و"منطلق زيد"، و"زيد المنطلق"، و"زيد هو المنطلق…."(4)
أما عن الإمام الزمخشرى ت(538)هـ فلقد استمد فهمه مما ذكره الإمام عبد القاهر الذى تعتبر جهوده تلخيصاً مركزاً لجهود من سبقه، فنظم القرآن كما يتصوره الزمخشرى يعنى "بيان الروابط والعلاقات بين الجمل، وكيف يدعو الكلام بعضه بعضاً، وكيف يأخذ بعضه بحجزة بعض"(5).
ولقد كان لبحث صاحب الكشاف فى النظم أثر فى حاشية القونوى كما سيتضح فيما بعد إن شاء الله.

وبعد الزمخشرى كتب فى إعجاز القرآن عدد من العلماء ولكنهم أرجعوا الإعجاز إلى وجوه مختلفة منها: الإيجاز، والنظم العجيب، والأخبار بالمغيبات ….الخ. فكتب القاضى عياض اليحصى ت(544) فصلاً ضافياً عن إعجاز القرآن فى كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم(1).

والإمام فخر الدين الرازى ت(606)هـ فى كتابه نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز(2). والأديب ابن أبى الأصبح المصرى ت(654) فى كتابيه البرهان فى إعجاز القرأن، و"بديع القرآن" والأول من النفائس المفقودة، والثانى مطبوع(3).

كما كتب عن إعجاز القرآن الإمام عز الدين بن عبد السلام ت(630)هـ فى كتابه "الإشارة إلى الإيجاز فى بعض أنواع المجاز"(4).

وبعز الدين بن عبد السلام نصل إلى خاتمة المشاهير الذين كتبوا فى إعجاز القرآن، ولقد جاء بعد ذلك علماء تناولوا هذا الجانب لكن اقتصرت جهودهم على نقل وجمع آراء السابقين، ومن هؤلاء : الزملكانى ت (727)هـ فى كتابه التبيان فى علم البيان المطلع على إعجاز القرآن والزركشى ت(745)هـ فى كتابه "البرهان فى علوم القرآن"(5) والعلوى ت(749)هـ فى كتابه "الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز"(6). وابن القيم ت(751)هـ فى كتابيه "بدائع الفوائد، والفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان" والفيروزابادى ت(817)هـ فى كتابه "بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز"(7) والسيوطى ت(909)هـ فى كتابيه "الإتقان فى علوم القرآن(8)، ومعترك الأقران فى إعجاز القرآن(9).

(1) المشهور أن أول من قال بالصرفة أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام أحد رؤس المعتزلة توفى فى خلافة المعتصم سنة (227)هـ.
(2) ينظر البرهان 2/93 ط بدار التراث والإتقان 4/314 ، 234 ط دار الفكر وبصائر ذوى التمييز 1/68 ط دار الكتاب العربى.
(3) ينظر البلاغة تطور وتاريخ ص161 ط دار المعارف – ط ثالثة (1976)م.
(4) أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أحد شيوخ المعتزلة، وإمام من أئمة الأدب واللغة من مؤلفاته الحيوان، والبيان والتبيين ينظر البداية والنهاية 11/23 ، 24 ط دار التقوى ط أولى.
(5) عبد الرحيم بن محمد بن عثمان أحد شيوخ المعتزلة فى بغداد ت(300)هـ.
(6) ينظر المقاييس البلاغية عند الجاحظ فى البيان والتبيين لأستاذنا الدكتور/ فوزى السيد عبد ربه ص216 ط دار الثقافة (1983)هـ، والإعجاز البيانى للقرآن للأستاذة الدكتورة/ عائشة عبد الرحمن ص 21 ط دار المعارف.
(1) ينظر الكشاف 1/42ط دار إحياء التراث العربى (1417)هـ.
(2) ينظر خطوات التفسير البيانى 1/99 ، 173 ، 174.
(3) ينظر إعجاز القرآن الرافعى ص131 ط مكتبة الإيمان ط أولى، ونظرية العلاقات أو النظم للأستاذ الدكتور/ محمد نابل ط دار المنار (1409)هـ.
(4) ينظر بيان إعجاز القرآن ص27 ضمن ثلاث رسائل ط دار المعارف – ط ثالثة.
(5) ينظر النكت فى إعجاز القرآن ص75 ، 76 باختصار ضمن ثلاث رسائل.
(6) ينظر إعجاز القرآن ص31 ، 32 ط مكتبة مصر.
(7) ينظر البلاغة القرآنية فى تفسير الزمخشرى ص 125.
(1) ينظر السابق ص 126 باختصار.
(2) ينظر البلاغة تطور وتاريخ ص 116 نقلاً عن المغنى 16/199،200.
(3) ينظر دلائل الإعجاز ص 55 بتحقيق الأستاذ/ محمود شاكر ط المدنى ط ثالثة (1413)هـ.
(4) ينظر دلائل الإعجاز ص81 باختصار.
(5) ينظر البلاغة القرآنية فى تفسير الزمخشرى ص236.
(1) ينظر الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1/258 – 280 ط دار الفكر (1409هـ (1988)م.
(2) ينظر نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز ص54 – 59 ط المكتب الثقافى ط أولى (1989)م.
(3) ينظر بديع القرآن بتحقيق الدكتور/ حنفى شرف – ط دار النهضة.
(4) ينظر الإشارة إلى الإيجاز فى بعض أنواع المجاز ص215 ط دار البشائر – ط أولى – (1418) (1987)م.
(5) ينظر البرهان 2/93.
(6) ينظر الطراز ص579 – 594.
(7) ينظر بصائر التمييز 1/68 وما بعدها.
(8) ينظر الإتقان 4/314 ، 314.
(9) ينظر معترك الأقران 1/27 ط دار الكتب العلمية (408)هـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق