الجمعة، 10 أبريل 2009

أثر القرآن فى اللغة العربية :
لقد كان للقرآن الكريم أكبر الأثر فى الحفاظ على اللغة العربية وبقائها على مر القرون , وكان سبباً فى أن جعل لغة القرآن لغة عالمية بعد أن كنت مقصورة على العرب وحدهم ([1]) ولولا القرآن والإسلام لم يكن هناك عربية كما نرى, أو لبقيت العربية لغة فئة معزولة عن العالم تعيش فى صحرائها يزهد فيها العالم , ويرغب عنها إلى غيرها ([2]) ولقد كان الإسلام, وتعلم القرآن باعثين على أن يتعلم الأعاجم لغة العرب التى نزل بها القرآن , بل أكثر من ذلك وهو التأليف باللغة العربية خدمة للقرآن الكريم .
ولقد نشأت الدراسات العربية بفروعها المختلفة متعلقة بالقرآن الكريم كتاب الله العزيز , فكان القرآن هو المحور الذى دارت حوله تلك الدراسات المختلفة سواء منها تلك الدراسات التى تتعلق تعلقاً مباشراً بتفسير القرآن وتوضيح آياته , وتبيين معناه , واستنباط أحكام الشريعة منه , أو تلك التى تخدم هذه الأغراض جميعها بالبحث فى دلالة اللفظ , واشتقاق الصيغ , وتركيب الجمل والأسلوب , والصور الكلامية , واختلافها باختلاف المقام , حتى تلك الدراسات التى تتعلق بالرسم الإملائى , والفلك , والرياضة , واسكناه أسرار الطبيعة .
كل هذ الدراسات قامت أساساً لخدمة الدين الإسلامى , ولأجل فهم القرآن الكريم مصدر التشريع الأول , ودستور المسلمين . ولقد فرغت فئات من المسلمين من غير العرب من الموالى لخدمة اللسان العربى فى مستوياته المختلفة : الصوتى , والصرفى , والتركيبى , والدلالى , ولم يقتصر أمره على ما ورد به استعمال القرآن , أو السنة , بل جاوزه إلى جمع اللغة , إحصاء شاردها ونادرها , وحصر غريبها وشاذها فى جهد لم يتحقق للغة من اللغات , وعمل لم يحظ به لسان من الألسنة , حتى رأينا من مصنفات العربية الشئ العجاب , ألفه أو اكتتبه قوم لسيوا من أهلها نسباً , ولكنهم منهم ولاءً ومحبة ([3])
وفيما يلى أبرز آثار القرآن فى اللغة العربية وعلومها بشئ من التفصيل , فمن أبرز هذه الآثار :
أولاً : اهتمام علماء اللغة بجمع الشواهد اللغوية , وتقعيد اللغة خدمة للقرآن : ولقد كان الباعث على ذلك باعثاً دينياً , وهو ضبط نصوص القرآن الكريم , وتعليم الطلاب لغة القرآن , ولقد جرت مناهج التعليم منذ أقدم العصور الإسلامية على المزج بين المعارف الدينية واللغوية فى الكتاتيب , والمساجد ,والمجتمعات ثم فى المدارس المنظمة فيما بعد .
ومن ثم كان اللغوى غالباً رجل دين , ولا ترى عالماً من علماء اللغة القدامى إلا كان مقرئاً , ومفسراً , أو محدثاً , أو متكلماً , أو فقيهاً ... ولقد شعر العلماء منذ الصدر الأول للإسلام بحاجتهم إلى الشعر العربى للاستعانة به فى فتح مغاليق الألفاظ , والأساليب الغريبة الموجودة فى القرآن الكريم , والأحاديث النبوية الشريفة , فأكبوا عليه يروونه , ويحفظونه, ويدرسون أساليبه , معانيه , وما يدور فيه من ذكر لأيام العرب ووقائعهم . ولولا هذا الباعث الدينى لاندثر الشعر الجاهلى , ولم يصل إلينا منه شئ . وفى ذلك يقول ابن عباس رضى الله عنه : " الشعر ديوان العرب , فإذا خفى علينا الحرف من القرآن الذى أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه ([4]) ويقول : " إذا سألتمونى عن غريب القرآن فالتمسوه فى الشعر , فإن الشعر ديوان العرب "ويقول : " إذا أشكل عليكم الشئ من القرآن , فارجعوا فيه إلى الشعر , فإنه ديوان العرب " . وكان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر . قال أبو عبيدة : يعنى كان يستشهد به على التفسير . وأوعب ما روى عن ابن عباس فى ذلك مسائل نافع بن الأزرق ([5])
والواقع أن العناية بلغة الشعر , والاستشهاد بها على غريب القرآن , ومفرداته , وبيانه ليست طارئة على الحياة العلمية فى عصر التابعين , وإنما كانت هذه العناية مألوفة عند الصحابة رضوان
الله عليهم كما سبق عن ابن عباس , وفيما أثر عن عمر رضى الله عنه ([6]) وبذلك تكون دراسة القرآن الكريم , والرغبة فى تفسير غريبه , وفهم مقاصده سبباً رئيسياً من أسباب العناية بالشعر العربى . ولا غرابة أن تحفل كتب إعراب القرآن وغريبه بمادة غزيرة من الشعر العربى الفصيح , فلقد تجاوزت الشواهد الشعرية فى كل من البحر المحيط , وجامع القرطبى , والدر المصون مثلاً أكثر من خمسة الآف بيت ([7]) ونجم عن ذلك العناية برواية الشعر للكشف عن أسرار الأسلوب القرآنى وإعجازه , وتفوقه على أعلى مراتب الشعر البليغ الذى كانت العرب تحتفل به أيما احتفال و وهى الخبيرة بمواقع النظم البليغ .
وللجرجانى فى كتابيه دلائل الإعجاز , وأسرار البلاغة , و للباقلانى فى كتابه إعجاز القرآن جولات واسعة فى هذا الحقل حيث وازن هؤلاء الأئمة بين أسلوب القرآن والشعر , وعرضوا أمثلة وافية ([8]) ويرى عبد القاهر أنه لما كان الشعر ديوان العرب كان محالاُ أن يعرف القرآن معجزاً من جهة فصاحته إلا من عرف الشعر ([9]) وهذه الإفادة الرحبة من المادة الشعرية فى سبيل الإحاطة بلغة القرآن مهدت الطريق لكثير من اللغويين للقيام برحلات علمية إلى البوادى لالتقاطها من أفواه الأعراب , ولولا هذا النشاط المبذول فى جمع الشعر والعناية به لخدمة القرآن لاندثر الشعر الجاهلى .
وكلما تباعد الناس عن عصر نزول القرآن برزت الحاجة إلى معرفة غريب القرآن , فكان الشعر من الوسائل لفهم هذا الغريب , و الإجابة عن استفسارات الناس المتجددة , ثم تدخل محاولات جمع الشعر مرحلة التنظيم والجمع من خلال المجموعات الشعرية التي جمعها الثقات من اللغويين كالمفضليات , والأصمعيات , وجمهرة أشعار العرب ، وتضمُّ هذه المجموعات قصائد لشعراء يُستشهد بشعرهم في مضمار اللغة . وقد يَجْمَعُ أحد علماء اللغة شعر أحد الشعراء الجاهليين في ديوانٍ واحد , ويشرح غريبه ، وبذلك مدَّ الشعرُ العربي حركةَ التفسير القرآنية التي بدت تنمو وتزدهر مع مرور الأيام ، كما مدَّ هذا الشعرُ معاجمَ اللغة , وكتب النحو والصرف , والبلاغة بشواهد غزيرة تساهم في تأصيل علومها .
وقد كان للعلماء الثقات في هذه الخطوات دورٌ كبير في سَدِّ أبواب الانتحال والوضع ؛ ليكون الاستشهاد مبنياً على أسس صحيحة ، وكلما ابتعد الناس عن موارد الفصاحة وتقدَّمت بهم الأيام ، صَعُبَ عليهم فَهْمُ الشعر والتعامل معه لكثرة غريبه المبثوث فيه ، فاستلزم الأمر شرحه ، ولا سيما الجاهلي الذي يكثر فيه الحوشيُّ .ويجد الباحث في المكتبة العربية الكثير من هذه الشروح التي يتخللها الاستشهاد بآيات القرآن الكريم ، ومن ذلك كتب الأمالي والنوادر ، ومن هنا صار فن الشعر فناً قائماً برأسه ، وفرعاً من فروع المعرفة اللغوية والبيانية التي تخدم القرآن .
وليس غريباً أن يحتلَّ الشعر مكانة عالية في مجال البحوث القرآنية المتعددة التي تُعنى بالتأصيل ، وبذلك خالف الشعر العربي آداب اللغات الحية التي لا نكاد نجد فيها مثل هذا التواصل اللغوي عبر هذه القرون المتطاولة ، ولكن بفضل القرآن بقي الشعر العربي حياً طوال فترة سالفة ([10])
ثانياً : نشأة المعاجم اللغوية العربية والتأليف فى اللغة خدمة للقرآن الكريم :
فلقد أسهمت معاجم اللغة المنهجية فى بيان المعانى المحتملة للمفردة القرآنية , وأوردت أقوال أهل اللغة فى ذلك , ومن المعروف أن عملية الجمع المنظم لمفردات اللغة , وترتيبها فى مصنفات معجمية أفادت الدراسات القرآنية إفادة واسعة من حيث إنها قدمت فيضاً من الشواهد , والأقوال , واللغات التى تدور حول المفردة القرآنية , ولا تخلو هذه المعاجم ولا سيما المطولة منها من تفسير غريب القرآن , وضبط ألفاظه , وبيان لهجات العرب المختلفة , ومن هذه المعاجم : تهذيب اللغة للأزهرى , ولسان العرب لابن منظور , وتاج العروس للزبيدى ([11])
ومن مظاهر عناية السلف بلغة القرآن :
( أ ) التأليف فى لغات القبائل الواردة فى القرآن كما فى كتاب " لغات القبائل الواردة فى القرآن " لأبى عبيد القاسم بن سلام , وكتاب " اللغات فى القرآن " لابن حسنون , وكذلك الوزان , وأبى حيان ([12])
(ب) أثرت دراسة الألفاظ فى القرآن فى ظهور كتب الأضداد , كما فى كتاب قطرب , وكتاب ابن الأنبارى . وهى تورد المفردة اللغوية , وتنص على استعمالها فى القرآن , والحديث , والشواهد الفصيحة من الشعر , وأقوال العرب ([13])
(ج) اجتهاد العلماء فى بيان المشترك اللغوى , حيث عدوه خصيصة من خصائص العربية , وعاملاً من عوامل تنميتها وثرائها . والمشترك اللفظى : هو ما اتحدت صورته واختلف معناه على عكس المترادف ([14]) أو هو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر .
(د) وثمة خدمة جليلة خاصة بمعانى المفردات القرآنية قام بها بعض علماء السلف من المعنيين بعلوم العربية , ومن ذلك كتاب المفردات للراغب الأصبهانى , وكتاب عمدة الحفاظ فى تفسير أشرف الألفاظ . ومنهج هذا الضرب من التصنيف هو ترتيب مواد الكتاب على منهج أوائل الحروف بعد تجريدها من الحروف الزائدة كما هو الحال فى معجم أساس البلاغة , ثم تذكر المعانى اللغوية الواردة داخل المادة و ويستشهد عليها بآيات من القرآن الكريم .
(هـ) استخدم القرآن طائفة من الألفاظ المعربة و وقد تصدى علماء العربية لها , وردوها إلى أصولها , ويطلق مصطلح المعرب على الكلمات التى أخذتها العربية من اللغات المجاورة , ولم تبق على حالها تماماً كما كانت فى لغاتها و وإنما طوعها العرب لمنهج لغتهم فى أصواتها وبنيتها , وقد طال الأمد على كثير من هذه الألفاظ فى الجاهلية و وألف الناس استعمالها و وصارت جزءاً من لغتهم , وجاء القرآن فأنزله الله بهذه اللغة العربية التى أصبح المعرب من مقوماتها , فجاء فيه شئ من تللك الألفاظ التى عربها القوم من لغات الأمم المجاورة , ومن المصنفات المشهورة فى ذلك " المعرب " للجواليقى .
(و) وهناك دراسات للغويين عرفت بـ " غريب القرآن " ؛ وذلك لأن القرآن قدم للعرب ثروة لغوية واسعة فاختلف الناس فى مستوى أفهامهم لهذه الثروة مما جعل اللغويين , والمفسرين يعكفون على دراسة الغريب لبيان معانيه , والاستشهاد عليه بشعر العرب , وأقوالهم , ومن ذلك كتاب : " تفسير غريب القرآن لابن قتيبة " ([15]) ويرى الدارسون أن القرآن سبب ظهور علم الغريب بمفهومه العام , وما جر إليه من حركة جمع الشوارد والنوادر , وما تبع ذلك من رحلات علمية نشطة إلى البوادى.
(ز) وهناك دراسات فى الفروق اللغوية أفاد منها المفسرون كثيراً , واختلفت وجهات نظرهم فى توجيه كثير من الآيات القرآنية بناءً عليها . ومن هذه الدراسات : " الفروق فى اللغة لأبى هلال العسكرى ت (395) هـ .

(ح) كتب المذكر والمؤنث , وهى رافد من الروافد اللغوية التى خدمت مفردات القرآن بتصنيفها حسب استعمال العرب لها مذكرة أو مؤنثة , وقد حفلت هذه المؤلفات بآيات القرآن لتكون شاهداً على الحكم الذى ذكرته . وقد عد الأنبارى أبو البركات عبد الرحمن بن محمد ت (577) فى كتابه " المذكر والمؤنث " هذا الضرب من التأليف من تمام معرفة النحو والإعراب ؛ ومن أشهر كتب هذا الضرب كتاب ابن الأنبارى , وكتاب المبرد أبى العباس محمد بن يزيد ت (285)هـ , وكتاب الفراء أبى زكريا يحيى بن زياد ت (207)هــ .

(طـ) وهناك مصنفات تتصل بعلوم القرآن اتصالاً وثيقاً , وتختص بأمور تدور حول القرآن , ومنها القطع والائتناف فى القرآن , هو فن يساعد على فهم معانى القرآن , وتدبر آياته ([16]) , ومن المؤلفات فى ذلك : كتاب " إيضاح الوقف والابتدا " للأنبارى , و " المكتفى فى الوقف والابتدا " لأبى عمرو الدانى , و " منار الهدى فى الوقف والابتدا " للأشمونى .
(ى) وهناك دراسات تتصل ببيان " مشكل القرآن " وكان الدافع إليها الحرص على لغة القرآن , ورد المطاعن والشكوك التى أثيرت حولها , ومن أبرز الكتب فى هذا الجانب : كتاب " تأويل مشكل القرآن " لابن قتيبة عبد الله الدينورى ت(276)هــ ([17]) , وهناك دراسات تتصل ببيان معانى القرآن ([18]) ومجازه ([19]) , وغريبه , ومبهمه , والقراءات , والنقط والشكل , واللامات فى القرآن , ومتشابه القرآن , وما اتفق لفظه واختلف معناه , ومقطوع القرآن وموصوله , وهى دراسات تتصل بلغة القرآن ومعانيه من قريب أو بعيد . وذلك غير الدراسات التى تتصل ببلاغة القرآن وإعجازه , وتجويده , وعد آياته , وأسباب النزول , وغير ذلك من الموضوعات الكثيرة التى ترتبط بالقرآن الكريم ([20]) والواقع أن باب اللغة واسع بذل السلف من خلاله جهوداً طيبة أسهمت فى فهم التنزيل وتدبر آياته ([21])
ثالثاً : العناية بالنحو خدمة للقرآن الكريم :
نجد أن الغيرة على القرآن الكريم , وصونه من التحريف على ألسنة الأعاجم كانت السبب فى وضع قواعد النحو . وتروى لنا الأخبار أن أبا الأسود الدؤلى كان أول من وضع النحو , وأن السبب فى ذلك أنه سمع قارئاً يقرأ : ( أن الله برئ من المشركين ورسوله ) بكسر اللام من رسوله , فغضب لذلك , وكان هذا حافزاً على وضع مبادئ النحو ([22]) وقد أجمع الذين تصدوا للحديث عن نشأة علوم العربية على أن القرآن الكريم كان الدافع الرئيس لعلماء السلف لوضع علم النحو والإعراب .
فشيوع ظاهرة اللحن , والخشية على القرآن منها أدت إلى التفكير فى علم النحو ؛ وذلك لأن نشر الدين فى البلاد المفتوحة , وبين الأقوام المختلفة أنشأ أحوالاً جديدة فى واقع اللغة ما كان العرب يعهدونها من قبل ؛ إذ كانت السليقة اللغوية قبل الإسلام سليمة صافية , واستمر الحال على ذلك فى عصر نزول القرآن , بيد أن الرواة يذكرون أن بوادر اللحن قد بدأت فى الظهور فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم , ومن تلك الروايات أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يلحن فى كلامه فقال : " أرشدوا أخاكم "([23])
ويورد الدارسون بعض الآثار التى تدل على تسرب اللحن إلى ألسنة الناس فى عهد الخلفاء الراشدين , وذلك أثر من آثار اختلاط العرب الفصحاء بغيرهم من الشعوب غير العربية مما أضعف السليقة اللغوية لديهم ([24]) ومع مرور الأيام تفشو ظاهرة اللحن فى القرآن الكريم إلى أن أصبحت بلاءً عاماً لا يخلو منه لسان كثير من الفصحاء حتى الذين تربوا فى البادية ([25]) وكان كثير من أبناء العرب ولدوا لأمهات غير عربيات , فنشأ جيل من هؤلاء الأبناء لديه استعداد لكى يلحن فى القرآن وغيره ؛ مما جعل الحاجة تمس إلى للبدء فى وضع ضوابط يعرف بها الصواب من الخطأ .
ويمكن أن نضيف إلى هذه العوامل ما شاع فى الوسط الاجتماعى الذى تعيش فيه الأمة الإسلامية , إذ كان فيه مجموعة من اللغات المتداولة إلى جانب العربية منها الفارسية , والسريانية , وهذا الوسط الاجتماعى سوف يشهد تزاوجاً طبيعياً بين عناصره من اللغات المختلفة مما أدى إلى اتساع الفوارق بين اللغة الفصيحة , واللغة المحكية , مثل هذه الفوارق تقلق أصحاب الغيرة على لغة القرآن , وبذلك ترتبط نشأة النحو بجذور الحياة الإسلامية فى ذلك الزمن .
ويضاف إلى العوامل السابقة فى نشأة النحو الحاجة إلى فهم مناحى التركيب اللغوى ليصار إلى التعامل مع القرآن , والاستنباط من أحكامه , وقد عد العلماء الإحاطة بعلوم اللغة ,والنحو, والتصريف من العلوم الرئيسية التى يحتاج إليها المفسر لكتاب الله ([26])
رابعاً : العناية بالبلاغة خدمة للقرآن الكريم :
يعد القرآن الكريم هو العامل الرئيس الذى ساعد على الشروع فى الدراسات البلاغية بمختلف اتجاهاتها , وكان هذا العامل من أهم البواعث فى إثارة الهمم للبحث الجاد عن ترتيب وجوه الكلام , والتمييز بين الأساليب , ومعرفة الجوانب الجمالية فى نسيج تركيب الجملة العربية ([27])
ويجمع العلماء على أنه بفضل الكتاب العزيز نشأت علوم البلاغة التى أمدها النص القرآنى بفيض من الأمثلة البديعة فى محاسن الكلام وبديع النظم ... ولو تساءلنا عن أسباب نشأة علوم البلاغة التى هى المعانى , والبيان , والبديع لتبين أنها نشأت للدفاع عن القرآن , والرد على الذين أنكروا إعجازه ([28]) وقد عرف العرب بسليقتهم اللغوية أن عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن نابع منه , بما يتميز به من خصائص أسلوبية وبيانية ... وإذا كان الدافع للاهتمام ببيان القرآن فى أول الأمر هو الفاع عن الكتاب العزيز أمام نزعات الشك , ورد المطاعن , فإن دراسات جادة شرعت فى بناء منظومة واسعة غرضها شرح أوجه إعجاز القرآن , ودراسة أسلوبه .
وهذه الدراسات زودت علم البلاغة بفيض من الأصول والأمثلة التى اعتمدتها مصنفات علوم البلاغة فيما بعد القرون الأولى , وكان اختلاف وجهات النظر فى مواطن إعجازه مادة ثرّة رفدت هذه العلوم بروافد تأصيلية فى البحث , والنقد الأدبى , وبذلك يتبين لنا أن أهم جانب ساعد على ظهور التفكير البلاغى هو الجانب المتصل بإعجاز القرآن , كما يتبين لنا أن اتساع الدراسات البلاغية وازدهارها إنما كان لخدمة القرآن الكريم .
وعن هذا الدافع يقول ابن خلدون : " واعلم أن ثمرة هذا الفن [ البيان ] إنما هى فى فهم الإعجاز من القرآن ؛ لأن إعجازه فى وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة , وهى أعلى مراتب الكلام مع الكمال فيما يختص بالألفاظ فى انتقائها , وجودة رصفها وتركيبها , وهذا هو الإعجاز الذى تقصر الأفهام عن إدركه , وإنما يدرك بعض الشئ منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربى , وحصول ملكته و فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه ..." ([29])
هذا ولم تقتصر علاقة القرآن الكريم بمنهج البحث البلاغى على الدفاع عنه والتماس وجه إعجازه , بل إن ثمة علاقة أخرى , وهى الضرورة التى يحسها المسلم من جهة فهم معانيه , ولا يتم هذا الفهم إلا بالإحاطة بأساليبه , وما يمكن أن ينطوى وراء تعبيراته من المعانى , والمقاصد على قدر طاقة المشتغلين فيه , ومن هنا جال علماء البيان بضروب الأسلوب القرآنى , وكان هذا من الحوافز التى وجهت أنظارهم إلى الفنون المختلفة للتعبير الفنى فى الشعر والنثر , فوضعوا مصنفات كثيرة فى هذه الحقول , وكانت هذه المصنفات صدى لبيان خصائص النظم القرآنى .
وكان من جملة أغراض البحث البلاغى عندهم : إثبات أن ما عرف فى أدب العرب من فنون جميلة عالية فى التعبير وقع مثله فى القرآن على صورة أجمل وآنق , وقد فتحت المصنفات التى تركوها باب البحث البلاغى على مصراعيه , ووصلت بالذوق البيانى إلى كثير من الأصول التى تأسست عليها علوم المعانى , والبيان , والبديع .
وعندما ازدهر التصنيف فى علوم البلاغة كانت خدمة القرآن ماثلة أمام العلماء الذين كانوا يعدون جهودهم منصبة فى هذا المجال , حتى إننا لا نكاد نجد كتاباً فى البلاغة مقصوراً على مباحثها النظرية , وبعيداً عن خدمة القرآن , فعبد الله بن المعتز ت (296) هـ مثلاً عندما شرع فى البحث عن صنوف البديع , وفنونه أشار إلى كثير من آيات القرآن الكريم , وكان يجعل الشاهد القرآنى فى مقدمة شواهده , وحين تكلم على ما سماه الجاحظ " المذهب الكلامى " قال : " وهذا باب ما أعلم أنى وجدت فى القرآن منه شيئاً , وهو ينسب إلى التكلف " ([30])
وترجع معظم كتب البلاغة سبب تأليفها إلى إطلاع الناس على مواطن أسرار البيان فى القرآن و فالرمانى ت (296) هـ مثلاً يحصر البلاغة فى أقسام عشرة هى : الإيجاز , والتشبيه , والاستعارة والتلاؤم , والفواصل , والتجانس , والتصريف , والتضمين , والمبالغة , وحسن البيان . ثم يمضى لتفسير كل قسم فى ضوء الآيات القرآنية , وبيان أسرار الجمال فيها ([31])
ونجد فى كتابى " دلائل الإعجاز , وأسرار البلاغة " للإمام عبد القاهر الجرجانى ت (471) هـ توجيه البلاغة توجيهاً خالصاً لخدمة القرآن الكريم . وهذا صاحب الصناعتين أبى هلال العسكرى (395) هـ يقول فى مقدمة كتابه : " قد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة , وأخل بمعرفة الفصاحة , لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف , وبراعة التركيب " بل إن أبا هلال يرى أن أحق العلوم بالتعلم , وأولاها بالتحفظ بعد المعرفة بالله علم البلاغة , ومعرفة الفصاحة الذى به يعرف إعجاز كتاب الله الناطق بالحكمة " ([32]) وهذا هو يحيى بن حمزة العلوى ت (749) هـ يؤلف كتابه , ويسميه " الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز " يتحدث فى المطلب الخامس عن الغرض من الكتاب فيقول : "واعلم أنه يراد لمقصدين : المقصد الأول : مقصد دينى , وهو الاطلاع على معرفة إعجاز كتاب الله , ومعرفة معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لا يمكن الوقوف على ذلك إلى بإحراز علم البيان , والاطلاع على غوره ... فإنه لولا علو شانه , وارتفاع قدره لما كان خير كتب الله المنزل على خير أفضل أنبيائه إعجازه متعلقاً به , فإن القرآن إنما كان إعجازه من أجل ما اشتمل عليه من الفصاحة والبلاغة "([33])
ويذكر الخطيب القزوينى ت (739) هـ فى مقدمة كتابه " التلخيص " أن موضوع إعجاز القرآن كان السبب فى وضع الكتاب , ويشير فى مقدمته إلى أن علم البلاغة وما يتبعه من أجل العلوم قدراً وأدقها سراً ؛ إذ به تعرف دقائق العربية وأسرارها , وتكشف عن وجوه الإعجاز فى نظم القرآن أستارها " ([34])
والبلاغة سلاح علمى من أهم أسلحة المفسر لكتاب الله , فهى من العلوم التى يحتاج إليها فى علم التفسير للوقوف على أسرار إعجاز القرآن , والغوص وراء أسرار البيان . وكما يقول الزمخشرى ت (538) هـ فى مقدمة " الكشاف " : " ولا يغوص على شئ من تلك الحقائق [ أى حقائق علم التفسير ] إلا رجل برع فى علمين مختصين بالقرآن , وهما علم المعانى , وعلم البيان , وتمهل فى ارتيادهما آونة , وتعب فى التنقير عنهما أزمنة , وبعثته على تتبع مظانهما همة فى معرفة لطائف حجة الله , وحرص على استيضاح معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " ([35])
وهذا ما أكده السكاكى ت (626) هـ فى كتابه " مفتاح العلوم " فى مقدمة القسم الثالث حيث يقول عند تعريفه لعلم البيان : " ... وفيما ذكرنا ما ينبه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم تعالى وتقدس من كلامه مفتقر إلى هذين العلمين [ أى المعانى , والبيان ] كل الافتقار , فالويل كل الويل لمن تعاطى التفسير , هو فيهما راجل " وبعد أن ذكر اختلاف العلماء فى وجوه إعجاز القرآن ... قال : " ... فهذه أقوال أربعة يخمسها ما يجده صاحب أصحاب الذوق من أن وجه الإعجاز هو أمر من جنس البلاغة والفصاحة , ولا طريق لك إلى هذا الخامس إلا طول خدمة هذين العلمين [ أى المعانى , والبيان ] بعد فضل إلهى من هبة يهبها الله بحكمته من يشاء , وهى النفس المستعدة لذلك ... "([36]) وهذا ما أكده وفصله سعد الدين التفتازانى ت (791) هـ صاحب " المطول " ([37])
ولقد ذكر السيوطى فى الإتقان فى النوع الثامن والسبعين العلوم التى يحتاج إليها المفسر , وهى خمسة عشر علماً... الخامس , والسادس , والسابع المعانى , والبيان , والبديع ؛ لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى , وبالثانى : خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة , وخفائها , وبالثالث : وجوه تحسين الكلام . وهذه العلوم الثلاثة هى علوم البلاغة , وهى من أعظم أركان المفسر ؛ لأنه لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز , وإنما يدرك بهذه العلوم " ([38]) ومن هنا فإن الدارسين المحدثين لمحوا علاقة علم البلاغة بكتاب الله , وما لها من أثر كبير فى فهم إعجاز القرآن , والكشف عن وجوه الجمال فى أسلوبه .
خامساً : العناية بالقراءات خدمة للقرآن :
هناك ارتباط وثيق بين القراءات القرآنية , ولهجات القبائل العربية , ولقد كان من حكمة هذه الأحرف التى نزل بها القرآن تيسير التلاوة للوحى الكريم و والتعامل معه على الرغم من أن اللسان العربى تتعدد لهجاته على نحو واسع ... وفى الفترة التى سبقت نزول القرآن كان للهجة قريش السيادة على الهجات العربية الأخرى نظراً للأسباب التى سبق ذكرها فى بداية هذا المبحث ([39])
فلقد كانت اللهجة القرشية تستقى من لهجات القبائل ما تحتاج إليه من صفوة اللغات حتى تم تكوينها قبيل نزول الوحى . وقد اشتملت لهجة قريش على خصائص كثيرة من لهجات القبائل الأخرى , إذ استوعبت صفوة العناصر الحميدة لهذه اللهجات . وقد سبق أن لغة قريش تميزت من سائر اللغات العربية بالوضوح والرقة , وسلمت من التباس مخارج الحروف , واختلاطها بعضها بعض , فليس فيها شئ من تلك الحروف التى ذكر اللغويون أنها مستقبحة , ولا الحروف التى مخرجها بين حرفين من الحروف الفصيحة . أما اللغات الأخرى فتتميز بالخشونة , ومزج الحروف بعضها ببعض , كما يرى فى الإدغام , والإمالة , والإشمام , والأصوات المرغوب عنها ([40])
هذا ولقد بذل النحاة جهداً فائقاً لخدمة القرآن بمختلف قراءاته المتواترة ([41]) والشاذة , فوجهوها بالتعليل المستند إلى الأصول المعتمدة عندهم , واستشهدوا على ذلك بالشواهد الفصيحة التى جمعوها من البوادى من البوادى عبر رحلاتهم العلمية المديدة , وقد استندوا إلى هذه القراءات فى تأصيل قواعدهم , وإرساء معالم الصناعة النحوية والصرفية , وضبط مفردات اللغة . ومن المعلوم أن للقراءات الصحيحة شروطاً ومعايير تجعلها مقبولة ([42]) وقد اعتمدها النحاة , واللغويون , والبلاغيون , واستنبطوا منها الأصول التى بنوا عليها علومهم , وما خالف شروط القراءة الصحيحة عدوه شاذاً .
فالقراءات المتواترة والشاذة حجة عند أهل العربية – وإن كانت الأولى أعلى قدراً – وقد صنف علماء العربية ثلاثة أنواع من المصنفات لخدمة القراءات فى ضوء صناعتهم : الضرب الأول : يختص بالمتواتر , ومنه الحجة لأبى على الفارسى ت (377) هـ , والكشف لمكى بن أبى طالب القيسى ت (437) هـ . والضرب الثانى : يختص بالشاذ , ومنه المحتسب لابن جنى ت (392) هـ , وإعراب القراءات الشاذة للعكبرى . والضرب الثالث : يجمع بين المتواتر , والشاذ , ومنه البحر المحيط لأبى حيان ت (745)هـ , والدر المصون للسمين الحلبى ت (756) هـ .
"وهكذا اشتغل النحاة بتوجيه القراءات القرآنية , وليس غريباً أن يكون النحاة الأوائل الذين بنوا صرح هذا العلم هم من القراء كأبى عمرو بن العلاء , وعيسى بن عمر , والخليل بن أحمد , ولعل اهتمامهم بهذه القراءات دفعهم إلى الدراسة النحوية المفصلة لكى يلائموا بين ما سمعوا من القراءات , وما رووه من كلام العرب .
وقد اجترأ بعض النحاة والمفسرين على تضعيف طائفة من القراءات المتواترة التى خالفت أصولهم المقررة فى اللغة , أو النحو والصرف , كما اجترؤوا على رميها بالتخطئة , أو الخروج عن سنن العربية ؛ مما جعل فريقاً آخر من النحاة يردون عليهم , ويثبتون خطأ هذا المنهج فى التسرع إلى تضعيف قراءات تشتمل على شروط القراءة المتواترة . وفى هذا الإثبات , والرد على المتسرعين محمدة حفظت لهذه القراءة هيبتها , واستنادها إلى وجه صحيح , فالحكم على رفض ما تواتر بحجة واهية ليس بالأمر السهل , وبذلك أصبح علم توجيه القراءات علماً أصيلاً يرد على الطاعنين , ويجيب عن تعليلها الذى يبين وجهها فى المعنى والصياغة "([43])
وهكذا نصل إلى أن علماء العربية خدموا قراءات القرآن الكريم بالتوجيه والشرح , وبينوا أصولها وحققوا فى صلتها بقواعدهم الصناعية , وردوا المجترئين عليها بالتلحين أو التضعيف , وتجاوزوا المتواتر منها إلى الشاذ , وتعدد ت مناهجهم ([44])
(3) ولقد كان هذا الأمر واضحاً فى نظر كثير من المستشرقين , ففى رأى نولدكة مثلاً أن العربية لم تصر لغة عالمية حقاً إلا بسبب القرآن والإسلام ؛ إذ تحت قيادة قريش فتح البدو سكان الصحراء نصف العالم وبهذا صارت العربية لغة مقدسة حقاً . فصول فى فقه اللغة ص109 نقلاً عن اللغات السامية ص79
(4) ينظر عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن صـ 6
(1) فلقد بحثوا عن أوجه الجمال فى القرآن , وعن إعجازه , وهؤلاء مما كانت لغتهم الأم أو الأولى غير العربية ؛ إذ من المعروف أن عدداً غير قليل من أبناء الشعوب الإسلامية انتحلوا العربية , فصارت لغتهم ولسانهم , وتناسوا بل هجروا لغتهم الأم , وكتبوا فى تمجيد العربية , وبيان فضلها , والتعصب لها
ما لم يكتبه قلم من صليبة عربية . ولنا أن نمثل فى هذا السياق بجمهرة من علماء العربية , وغيرهم من مثل : أبى بشر عمر و بن عثمان قنبر المعروف بسيبويه ت (180) هــ , أبى حاتم الرازى ت (322) هـ , وأبى على الفارسى ت (377) هــ , وأحمد بن فارس ت (395) هــ , وأبى حيان التوحيدى ت (414) هـ . ولمزيد من التوسع راجع الفصل السادس والأربعين فى مقدمة ابن خلدون بعنوان : فى أن حملة العلم فى الإسلام أكثرهم من العجم صـ 747 – 750 , وعناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن صـ 6 - 9
(1) وليس الأمر انا جعلنا الشعر أصلاً للقرآن , بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر ؛ لأن الله تعالى قال : ( إنا جعلناه قرآناً عربياً ...) ولقد قال ابن عباس كما سبق : " الشعر ديوان العرب , فإذا خفى علينا الحرف من القرآن الذى أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها , فالتمسنا معرفة ذلك منه " ينظر الإتقان 1/121
(2) هذا ولقد جمعت هذه الأسئلة وإجابتها فى كتاب مستقل باسم " سؤالات نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن عباس " نشره الدكتور / إبراهيم السامرائى ببغداد سنة (1968) م , كما ذكرها السيوطى فى النوع السادس والثلاثين من كتابه " الإتقان فى علوم القرآن ط , وبعضها فى الكامل للمبرد , وإيضاح الوقف والابتداء لابن الأنبارى . ينظر الإتقان 1/121 , وفصول فى فقه العربية صـ 109 , والإعجاز البيانى ومسائل نافع ابن الأزرق صـ 287 – 603 للدكتورة / عائشة عبد الرحمن – ط دار المعارف – ط ثانية .
(3) فمن ذلك : ما أورده الزمخشرى عن الخليفة الراشدد عمر رضى الله عنه حيث سأل - وهو على المنبر - عن قوله تعالى : ( أو يأخذكم على تخوف ... ) [ النحل : 47 ] فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا , التخوف : التنقص . فسأله عمر : هل تعرف العرب ذلك فى أشعارها ؟ قال : نعم . قال الشاعر :
تخوف الرحل منا تامكاً قرداً * كما تخوف عود النبعة السفن . فقال عمر : أيها الناس , عليكم بديوانكم لا يضل . فقالوا : وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم . الكشاف 2/568 . هذا والبيت لأبى كبير الهذلى . والتخوف : التنقص شيئاً فشيئاً . والتامك : السنام المرتفع . والنبع : شجر تتخذ منه القسى . والسفن : مبرد الحديد الذى ينحت به الخشب . شرح شواهد الكشاف 2/568 لمحب الدين أفندى
(4) يقول الرافعى : " توسع النحاة , وأهل اللغة فى شواهد القرآن , ونقبوا عنها , واستعرضوا ما انتهى إليهم من كلام العرب , فلا يعرف فى تاريخ الإنسانية قاطبة شواهد تبلغ عدتها أو تقاربها , أو تكون منها على نسبة متكافئة , فإن مبلغ ما أحصوه من شواهد القرآن فيما ذكروا ثلاثمائة ألف بيت من الشعر , ولعمر أبيك إنها لمعجزة فى فنها , ولو بلغت الشواهد نصف هذا القدر لكانت المعجزة كاملة . إعجاز القرآن والبلاغة النبوية صـ101
(5) إعجاز القرآن صـ 159 – 183 ط دار المعارف – ط خامسة – (1374) هـ ( 1954) م .
(6) دلائل الإعجاز صـ 7 ط دار الكتب العلمية – بيروت .
(1) عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن ومراجعه صـ45 , 46 للدكتور / أحمد الخراط .
(2) ومن أمثلة الصلة الوثيقة بين هذه المعاجم وتفسير كتاب الله : أن صاحب اللسان فى مادة " يأس " تعرض لاختلاف أهل اللغة فى معانى اليأس , وهل يكون بمعنى العلم ؟ وأشار إلى اختلاف المفسرين فى قوله تعالى : ( أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء اللع لهدى الناس جميعاُ ...) [ الرعد : 31 ] وما ينجم عنه فى توجيه الآية , وسمى طائفة من القبائل العربية التى تستعمل اليأس بمعنى العلم و وعرض شواهد من الشعر العربى الفصيح التى تدعم هذا الاستعمال . اللسان مادة "يأس" 6/260 ط دار صادر – بيروت – ط ثانية – (1414)(1994) م .
(1) هذا ولقد ذكر صاحب الفهرست من كتب اللغات فى القرآن : كتاب اللغات فى القرآن للفراء , ولأبى زيد , وللأصمعى , وللهيثم بن عدى , ومحمد بن يحيى القطيعى , وابن دريد ولم يتمه . الفهرست صـ 38 ط طهران – (1991) هـ(1971) م .
(2) ذكر صاحب كشف الظنون من كتب الأضداد كتاب الأصمعى ت (212) هـ , وابن المستنير قطرب ت (206) هـ , وأبى حاتم السجستانى ت (250) هـ , وجعفر بن درستويه ت (347) هـ , وابن الأنبارى ت (328) هـ , وابن الدهان النحوى ت (569) هـ , وحسن الصغانى ت (605) هـ . كشف الظنون 1/ 115 , 116 ط دار إحياء التراث العربى – بيروت .
(3) ولقد ذكر صاحب الفهرست من الكتب المؤلفة فيما اتفقت ألفاظه ومعانيه فى القرآن : كتاب أحمد بن عيسى اللؤلؤى , وكتاب الأخفش سعيد , وكتاب نصير , وكتاب يعقوب الحضرمى , وكتاب نافع بن عبد الرحمن , وكتاب روح بن مؤمن . الفهرست صـ 39
(4) ذكر صاحب الفهرست من كتب غريب القرآن : غريب القرآن لأبى عبيدة , ومؤرج السدوسى , وابن قتيبة , واليزيدى , وابن سلام الجمحى , والطبرى وأبى عبيد القاسم , والسجستانى , والعروضى , والأحول , والبلخى . ولقد ذكر صاحب كشف الظنون كتب غريب القرآن والحديث بالتفصيل . الفهرست صـ37 , وكشف الظنون 2/1203 - 1208
(1) قال الزركشى : " وهو فن جليل , وبه يعرف كيف أداء القرآن , ويترتب على ذلك فوائد كثيرة , واستنباطات غزيرة , وبه تتبين معانى القرآن , ويؤمن الاحتراز عن الوقوع فى المشكلات " . وقال السيوطى : " أفرده بالتصنيف خلائق , منهم أبو جعفر النحاس , وابن الأنبارى , والزجاج , والدانى و والعمانى , والسجاوندى , وغيرهم , وهو فن جليل يعرف به كيف أداء القرآن " البرهان 1/339 , والإتقان 2/539
(2) كشف الظنون 2/378 , والفهرست صــ37
(3) وقد كان لعلماء العربية إسهام واضح وكبير فى هذا الجانب , ولقد صار فيما بعد من مصادر التفسير , ومن ذلك : كتاب " مجاز القرآن " لأبى عبيدة معمر بن المثنى ت (208)هـ , ومعانى القرآن لأبى الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش ت (215)هــ , وقد عنى بما عنى به أبو عبيدة من تفسير الألفاظ , وشرح المعانى , وبيان وجوه الأساليب , وأغراض الخطاب وخروج الأساليب عن ظاهرها , وزاد على ذلك عنايته بالظاهرة النحوية , والقراءات القرآنية , كما ألف فى معانى القرآن أبو جعفر النحاس ت (338)هــ , وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء ت (207)هــ , وأبو إسحاق الزجاج ت (311)هــ , وغيرهم من العلماء . ينظر لمزيد من التفصيل الفهرست صــ37 , وكشف الظنون 2/395
(4) الفهرست صــ36-41
(5) ينظر فى تفصيل ذلك البرهان فى علوم القرآن للزركشى , والإتقان فى علوم القرآن للسيوطى , والزيادة والإحسان فى علوم القرآن لابن عقيلة المكى .
(6) ينظر فى تفصيل ذلك عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن الكريم صـ4-21 للدكتور/ أحمد الخراط , وعناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن صــ37-52 للدكتور/ سليمان العايد .
(1) وفى رواية ذكرها القرطبى عن أبى مليكة أن تلك الحادثة كانت فى زمان عمر رضى الله عنه . ينظر تفسير القرطبى 1/43 ط مؤسسة الرسالة – ط أولى – (1427) هــ (2006) م , و نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة صــ11-17 للشيخ / محمد الطنطاوى ط دار المنار – (1412) هـ (1991) م. , وفصول فى فقه العربية صـ112
(2) رواه الحاكم فى المستدرك – كتاب التفسير – 41 – تفسير حم السجدة - ح (3700) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه , ووافقه الذهبى. ونص الحديث عن أبى الدرداء رضى الله عنه قال : سمع النبى صلى الله عليه وسلم رجلاً قرأ فلحن فقال رسول الله : " أرشدوا أخاكم " المستدرك 2/1301 ط دار الحرمين – ط أولى – (1417)هــ (1997) م . والحديث ضعفه الألبانى فى السلسة الضعيفة ح (914) 2/315 ط مكتبة المعارف – ط خامسة (1412)هـ
(3) وسيأتى تفصيل ذلك عند الحديث عن المراحل التى مر بها جمع القرآن فى عهد عثمان رضى الله عنه .
(4) فلقد روى يونس بن حبيب أن الحجاج قال ليحيى بن يعمر : أتسمعنى ألحن على المنبر ؟ قال يحيى : الأمير أفصح من ذلك , فألح عليه , فقال : حرفاً . قال الحجاج : أياً ؟ قال : فى القرآن . قال الحجاج : ذلك أشنع له فما هو ؟ قال : تقول : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ... إلى قوله : (أحب ) [ التوبة : 24 ] فتقرؤها " أحبُ " بالرفع , والوجه أن تقرأ بالنصب على خبر كان . ويذكر أن الحجاج قرأ ( إنا من المجرمون منتقمون ) [ السجدة : 22] . البيان والتبيين 2/218 ط دار الجيل , والمدارس النحوية صــ11 , 12 للدكتور / شوقى ضيف ط دار المعارف – ط سابعة .
(1) الإتقان 1/146 , 180 , وعناية المسلمين باللغة العربية صــ22-29 للخراط .
(2) البيان العربى صــ24 للدكتور/ بدوى طبانة ط مكتبة الآنجلو – ط سادسة – (1396)هـ (1976) م , والبلاغة تطور وتاريخ صـ13 للدكتور/ شوقى ضيف ط دار المعارف – ط ثالثة , وتأثير الفكر الدينى فى البلاغة العربية صـ9 , 119 , 194 للدكتور/ مهدى السامرائى ط المكتب الإسلامى .
(3) إعجاز القرآن صـ130 للرافعى ط مكتبة الإيمان , والبيان العربى صـ23
(4) المقدمة صــ762
(1) البديع صــ53 ط المثنى – بغداد – (1951) م.
(2) النكت فى إعجاز القرآن صـ76 – 113 ضمن ثلاث رسائل – ط دار المعارف – ط ثانية (1387) هـ (1968) م.
(3) الصناعتين صـ 9, 10ط دار الكتب العلمية – ط ثانية – (1409) هـ (1989) م .
(1) الطراز 1/32 , 33 باختصار ط المقتطف (1323)هـ .
(2) التلخيص صـ21 ط دار الفكر العربى ط أولى – (1409) م .
(3) الكشاف 1/43
(4) مفتاح العلوم صـ 77 , 280 ط الحلبى – (1411) هـ .
(5) المطول شرح التلخيص صـ9 ,10ط المكتبة الأزهرية .
(6) الإتقان 2/181
(1) بداية المبحث الثالث : اختيار لغة قريش لنزول القرآن بها , والسر فى ذلك صـ6
(2) راجع تفصيل ذلك فى الخبر الذى رواه الأصمعى عن معاوية والأعرابى فى صــ7
(3) بدأ التدوين فى علم القراءات كغيره من العلوم فى وقت مبكر , غير أنه لم يشتد إلا فى القرن الثالث الهجرى عصر التدوين والانفتاح العلمى فى شتى العلوم والفنون , ويعد أبو عبيد القاسم بن سلام ت (224) هـ أول إمام معتبر دون القراءات , وجمعها فى مؤلف واحد , وجعلهم خمساً وعشرين قارئاً مع القراء السبعة . علم القراءات نشأته وأطواره وأثره فى العلوم الشرعية صــ 98 ,103 للدكتور/ نبيل محمد إسماعيل ط مكتبة التوبة – ط أولى –1421) هـ (20009) م , وفى علوم القراءات مدخل ودراسة وتحقيق صــ34 ,35 للدكتور/ سيد رزق الطويل ط المكتبة الفيصلية – ط أولى – (1405) (1985) م.
(3) النشر فى القراءات العشر 1/9 , والقراءات القرآنية فى ضوء العلم الحديث صــ 257 , وما بعدها للدكتور/ عبد الصبور شاهين ط مطبعة الخانجى .
(1) عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن صــ 47-54 للدكتور/ الخراط .
(2) لقد كان الاحتجاج للقراءات باباً واسعاً لخدمة اللغة العربية , وتقوية بعض وجوهها , ولقد عرف النحويون هذا الاحتجاج منذ بداية التأليف فى علوم العربية . نجد ذلك فى كتاب سيبويه , ومن تبعه من النحاة ... فلما كان القرن الرابع فى أوله سبّع أبو بكر بن مجاهد ت (324) السبعة , وألف كتابه , وتلقت الأمة تسبيعه بالقبول , وظهر منذ ذلك الزمن توجيهات واحتجاجات للقراءات سواء كانت سبعية أو غير ها . والكتب فى القراءات تخريجاً وتوجيهاً واحتجاجاً أكثر من أن نأتى عليها فى هذه العجالة , ولكن مما تجدر الإشارة إليه أن هذا النوع من التأليف قد أسهم فى إثراء العربية , وخدمة لغة القرآن , وكان إضافة لدرس العربية اتخذ القرآن محوراً , وجعله مداراً يدور حوله , ثم إن كتب توجيه القراءات تمزج مستويات الدرس اللغوى الأربعة ببعض : الصوتى , والصرفى , والنحوى , والدلالى , وتعد من أرقى الدراسات التطبيقية فى اللغة العربية , وهى تمثل اللحمة القوية بين علوم العربية , وعلوم القرآن , وتصور التآخى بينهما فى أعلى مقاماته , وأسمى درجاته ؛ لأنها تتخذ النص المقدس مجالاً للدرس , وتروم خدمته , ورفع ما يحيق بفهمه من حواجز , وتيسير ذلك الفهم من خلال تناول لغوى ميسر يعتمد التحليل والغعراب , وذكر النظائر , والاستئناس بالرأى أو الآراء الأخرى , وتخريج ما فى القراءة من كلام العرب , أو آراء العلماء ومذاهبهم . العناية باللغة العربية خدمة للقرآن الكريم صـ52-54 للدكتور/ العايد .
خصوصية اللغة العربية :
هذه اللغة التى اختارها الله لتكون لغة آخر الكتب السماوية إلى أهل الأرض لها ظرف خاص لم يتوفر لأى لغة من لغات العالم , وذلك أنها ارتبطت بالقرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان , ودون بها التراث العربى الضخم الذى كان محوره هو القرآن الكريم فى كثير من مظاهره , وقد كفل الله لها الحفظ ما دام يحفظ دينه , فقال عز من قائل : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ولولا أن شرفها الله عز وجل فأنزل بها كتابه , وقيض له من خلقه من يتلوه صباح مساء , ووعد بحفظه على تعاقب الأزمان لولا كل هذا لأمست العربية الفصحى لغة أثرية تشبه اللاتينية أو السنسكريتية , ولسادت اللهجات العربية المختلفة , وازدادت على مر الزمان بعداً عن الأصل الذى انسلخت منه .
هذا هو السر الذى يجعلنا لا نقيس العربية الفصحى بما يحدث فى اللغات الحية المعاصرة , فإن أقصى عمر هذه اللغات فى شكلها الحاضر لا يتعدى قرنين من الزمان , فهى دائمة التطور والتغير وعرضة للتفاعل مع اللغات المجاورة تأخذ منها وتعطى , ولا تجد فى ذلك حرجاً ؛ لأنها لم ترتبط فى فترة من فترات حياتها بكتاب مقدس كما هو الحال فى العربية ... فهذه العربية التى استمرت حية أكثر من أربعة عشر قرناً , والتى ستستمر فى حياتها إلى ما شاء الله تستمد من ارتباطها بالقرآن عنصر الحياة ([1]) وهذه القضية كانت واضحة فى أذهان اللغويين العرب فى الماضى , فهذا أبو حاتم الرازى ت (322) هـ يقول : " ولولا ما بالناس من الحاجة إلى معرفة لغة العرب , والاستعانة بالشعر على العلم بغريب القرآن , وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , والصحابة والتابعين , والأئمة الماضين لبطل الشعر , وانقرض ذكر الشعراء , ولعفى الدهر على آثارهم , ونسى الناس أيامهم " ([2])
أما عن خصائص اللغة العربية فى حروفها , وألفاظها , ومعانيها , وطرق أدائها , وسعتها , فحدث ولا حرج , فللعربية خصائص صوتية تتصل بمخارجها , ومن خصائصها فى الألفاظ الاشتقاق , والنحت , والتعريب , والترادف , والاشتراك اللفظى , والتضاد . ولها خصائص فى الشكل , والهيئة , والصيغة , والوزن , ولها خصائص فى المعنى , ففيها الإيجاز بأنواعه , وفيها المجاز بأنواعه واتساعه , وفيها التشبيه , والوصف , وغير ذلك من وسائل التصوير . فضلاً عن ناحية التناغم فى اللغة , والتناسق والسلاسة , والموسيقى اللفظية التى ألهمت الشعراء , وأسعفت الكتاب والأدباء , فاللغة العربية كما يقول العقاد : " لغة بنيت على نسق الشعر فى أصوله الفنية والموسيقية , فهى فى جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات , لا تنفصل عن الشعر فى كلام تألفت منه ولو لم يكن من كلام الشعراء . وهذه الخاصة فى اللغة ظاهرة من تركيب حروفها على حدة , إلى تركيب مفرداتها على حدة , إلى تركيب قواعدها وعباراتها , إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها فى بنية القصيد " ([3])
وفى ذلك يقول أبو حيان التوحيدى : " ... وقد سمعنا لغات كثيرة – وإن لم نستوعبها – من جميع الأمم كلغة أصحابنا العجم , والروم , والهند , والترك , وخوارزم , وصقلاب , وأندلس , والزنج , فما وجدنا لشئ من هذه اللغات نصوع العربية , أعنى الفرج التى فى كلماتها , والمسافة التى بين مخارجها , والمعادلة التى تذوقها فى أمثلتها , والمساواة التى لا تجحد فى أبنيتها ... وهذا شئ يجده كل من كان صحيح البنية , بريئاً من الآفة , متنزهاً عن الهوى والعصبية , محباً للإنصاف فى الخصومة , متحرياً للحق فى الحكومة "([4]) وقد سبق الحديث عن بعض خصائص العربية فى مبحث اللغة التى نزل بها القرآن , وقد نقلت هناك من كلام الأدباء واللغويين – غير العرب - ما يشهد للعربية بتفوقها , وثرائها .
(2) من مظاهر فصل اللغة عن قرآنها : ادعاء بعض الكتاب أن اللغة حفظت لا بسبب ارتباطها بالقرآن , ولكن بسبب انكفائها على نفسها , وانغلاق أهلها كما هو الحال فى اللغة الصينية كما يقولون . وقد غاب عن هذا وأضرابه أن العربية بنيت على أصل سحرى يجعل شبابها خالداً عليها فلا تهرم ولا تموت ؛ لأنها أعدت من الأزل فلكاً دائراً للنيرين العظيمين كتاب الله وسنة رسوله , ومن ثم كانت فيها قوة عظيمة من الاستهواء كأنها أخذة السحر لا يملك معها البليغ أن يأخذ ويدع . ينظر عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن صـ58 ,59 للدكتور / سليمان العايد نقلاً عن تحت راية القرآن صـ31 للرافعى .
(3) التطور اللغوى مظاهره وعلله وقوانينه صـ 12-14 للدكتور/ رمضان عبد التواب – ط مكتبة الخانجى – ط ثانية – (1410) – (1990) م.
(1) ينظر للتوسع اللغة الشاعرة صـ 8 , وما بعدها للعقاد – ط نهضة مصر , واللغة العربية ومكانتها بين اللغات 1/4-12 للدكتور/ فرحان السليم .
(2) ينظر الإمتاع والمؤانسة صــ34-36 وقد نقل قبل كلامه السابق كلاماً لابن المقفع فى تفضيل العرب على العجم , والفرس , والهند . وكلامه – وإن كان حول اللغة العربية ككل , فهذا مما ينطبق على لغة قريش لاشتمالها على الخصائص التى ذكرها كما سبق . ومن ذلك أيضاً ما حكاه ابن الأثير لما كان فى مصر يقول : " وحضر عندى فى بعض الأيام رجل من اليهود , وكنت إذ ذاك فى الديار المصرية , وكان لليهود فى هذا الرجل اعتقاد لمكان علمه فى دينهم وغيره , وكان لعمرى كذلك , فجرى ذكر اللغات , وان اللغة العربية هى سيدة اللغات , وأنها أشرفهن مكاناً , وأحسنهن وضعاً . فقال ذلك الرجل : كيف لا تكون كذلك , وقد جاءت آخراً , فنفت القبيح من اللغات قبلها , وأخذت الحسن , ثم إن واضعها تصرف فى جميع اللغات السالفة , فاختصر ما اختصر , وخفف ما خفف , فمن ذلك : اسم الجمل , فإنه عندنا فى اللسان العبرانى " كوميل " ممالاً على وزن فوعيل , فجاء واضع اللغة العربية , وحذف منا الثقيل المستبشع , وقال : " جمل " , فصار خفيفاً حسناً , وكذلك فعل فى كذا وكذا , وذكر أشياءً كثيرة , ولقد صدق فى الذى ذكره , وهو كلام عالم به " المثل السائر 1/206 ط دار نهضة مصر .
المبحث الثالث : اختيار قريش ولغتها لنزول القرآن بها , والسر فى ذلك :
اصطفى الله عز وجل نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم من بين أفصح الناس , وأنزل عليه القرآن الكريم بأفصح لغات العرب ولهجاتها . وهذا أمر مقصود إليه لحكمة أرادها الله عز وجل , فلهجة قريش – فوق الذى أحيطت به من مظاهر التقديس – انفردت حقاً بمزايا حفظت لها شخصيتها , وأتاحت لها من أسباب التكامل ما لم يتح لغيرها .
فبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتها كان حاجزاً طبيعياً دون كثرة اتصالها بالأجانب , فلم يداخلها من لكنة الأعاجم ما داخل القبائل المتطرفة التى كانت على اتصال وثيق بمن حولها من غير العرب , وهذا ما أشار إليه ابن خلدون فى المقدمة حيث قال : " ... ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصحها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتها , ثم من اكتنفهم من ثقيف , وهذيل وخزاعة , وبنى كنانة , وغطفان , وبنى أسد , وبنى تميم . وأما من بعد عنهم من ربيعة , ولخم , وجزام و وغسان , وإياد , وقضاعة ,وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس , والروم , والحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم , وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم فى الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية " ([1])
كما كانت قريش تنتقى للفصيح من لغات القبائل , وتضمه إلى لغتها مما جعلها أفصح العرب . وفى ذلك يقول أبو النصر الفارابى فى أول كتابه المسمى بــ " الألفاظ والحروف " : كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق , وأحسنها مسموعاً , وأبينها إبانة عما فى النفس ". وقال ابن فارس : "حدثنا إسماعيل بن أبى عبيد الله قال : أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم , والعلماء بلغاتهم , وأيامهم , ومحالهم أن قريشاً أفصح العرب ألسنة , وأصفاهم لغة , وكانت قريش مع فصاحتها , وحسن لغتها , ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التى طبعوا عليها , فصاروا بذلك أفصح العرب "([2]) ولقد تميزت لغة قريش من سائر اللغات العربية بالوضوح والرقة , وسلمت من التباس مخارج الحروف , واختلاطها بعضها بعض , فليس فيها شئ من تلك الحروف التى ذكر اللغويون أنها مستقبحة , ولا الحروف التى مخرجها بين حرفين من الحروف الفصيحة . أما اللغات الأخرى فتتميز بالخشونة , ومزج الحروف بعضها ببعض , كما يرى فى الإدغام , والإمالة , والإشمام , والأصوات المرغوب عنها ([3]) وكان أبو حاتم السجستانى يفضل لغة قريش على ما سواها , ويقيس الفصاحة فى القبائل بنسبة قربها منها . يقول : " وأحب الألفاظ واللغات إلينا أن نقرأ بها لغات قريش , ثم أدناها من بطون مضر , والمراد بالدنو : دنو الدار ؛ لأنه سبب فى تدانى اللغات "([4]) ويظهر ابن خالويه انبهاراً شديداً باللغة القرشية إذ يقول : " إنما النحوى الذى ينقر عن كلام العرب , ويحتج عنها , ويبين ما أودع الله تعالى هذه اللغة الشريفة هذا القبيل من الناس , وهم قريش "([5])
ولعل من أسباب ذلك طبيعة الحياة الحضرية المكية , وطبيعة الحياة البدوية التى تحياها القبائل العربية التى أخذت عنها اللغة . فالتأنق والتروى سمة من سمات الحضارة , والعفوية والسرعة من خلائق البادية .ولقد فطن الجاحظ إلى ذلك فى زمانه فقال : " ولأهل المدينة ألسن ذلقة , وألفاظ حسنة "([6]) ومما يلاحظ هنا أن الذين شهدوا لقريش وللغتها بالنصوع والفصاحة لم يكونوا من قريش , بل بعضهم من غير العرب , فجرير ليس من قريش , وكذلك العباس بن مرداس السلمى , والأعرابى من جرم , وقتادة , وأبو حيان التوحيدى , وأبو حاتم السجستانى , وابن خالويه فليتأمل ذلك !
كما كان للظروف الدينية أثر كبير ؛ لأن بيئة مكة كانت منذ عهود سحيقة قبل الإسلام بيئة مقدسة يفد إليها العرب من كل فج ليحجوا إليها , وهذا يؤدى بالطبع إلى اجتماع فريق كبير من العرب فى هذه البقعة المباركة , واختلاطهم بأهلها , واختلاط أهلها بهم ... وهذه القبائل لم تفد إلى مكة للحج والعبادة فقط وإنما ليشهدوا كذلك تلك الأسواق التى تقام حول مكة للبيع والشراء , وكانت تعقد فى تلك الأسواق ندوات أدبية للخطباء والشعراء , ويسمع فيها من عيون الشعر , وجيد القول كما كانت الحال فى سوق عكاظ المشهورة . يقول الأستاذ / سعيد الأفغانى : " كانت مواسم أسواق عكاظ , وجنة , وذى المجاز تقع فى أيام حجهم , وهى أعمر أسواق العرب بمختلف القبائل يأتونها من كل أوب ومعهم خيرات بلادهم , وتلك ميزة لا تتمع بها بلدة غير مكة , ولا قوم غير قريش , ولقد امتن الله عليهم بذلك فقال تعالى : ( أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ القصص : 57 ] وقال : ( أول يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم ... ) [ العنكبوت : 67 ]([7])

وهناك عامل اقتصادى آخر له أهميته فإن أهل مكة كانوا تجاراً ينتقلون بتجارتهم فى أماكن مختلفة , ويرتحلون بها إلى اليمن فى الشتاء , وإلى الشام فى الصيف , ولا يستقرون فى مكان إلا بمقدار الزمن الذى يحدده لهم البيع والشراء . هذا النشاط التجارى الضخم قد أتاح لهم الغنى والثراء ومن ملك المال , واحتضن الدين فقد تحقق له سلطان سياسى قوى , وكان أكثر حضارة , وأقوى نفوذاً من غيره ؛ ولهذا كانت اللهجة القرشية من أقوى اللهجات أثراً فى تكوين اللغة العربية الفصحى "([8])
فاختار الله لوحيه لغة من أفصح اللغات ([9]) لم تطلها يد التحريف والتبديل لتكون خالدة بخلود القرآن الكريم . قال جل ثناؤه : ( وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين ) [ الشعراء : 192 – 195 ] فوصفه سبحانه بأبلغ ما يوصف به الكلام وهو البيان . فاللغة العربية من أفضل اللغات وأوسعها بما فيها من الاستعارة , والتمثيل , والقلب , والتقديم والتأخير , وغيرها من سنن العرب فى القرآن ([10]) ولا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شئ من الألسنة كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية , وترجمت التوراة والزبور , وسائر كتب الله عز وجل بالعربية ؛ لأن العجم لم تتسع فى المجاز اتساع العرب كما يقول ابن فارس ([11])
ومن أجمع ما قيل حول مكانة قريش , ومنزلتها ما ذكره الثعالبى ت (429)هـ فى كتابه " ثمار القلوب فى المضاف والمنسوب " حيث يقول : " كان يقال لقريش فى الجاهلية أهل الله ؛ لما تميزوا به عن سائر العرب من المحاسن والمكارم , والفضائل والخصائص التى أكثر من أن تحصى . فمنها مجاورتهم بيت الله تعالى , وإيثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله , وصبرهم على لأواء مكة وشدتها , وخشونة العيش بها . ومنها ما تفردوا به من الإيلاف , والوفادة , والرفادة , والسقاية والرياسة , واللواء , والندوة . ومنها كونهم على إرث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من قرى الضيف , ورفد الحاج والمعتمرين , والقيام بما يصلحهم , وتعظيم الحرم , وصيانته عن البغى فيه والإلحاد , وقمع الظالم , ومنع المظلوم , ومنها كونهم قبلة العرب , وموضع الحج الأكبر , يؤتون من كل أوب بعيد , وفج عميق , فترد عليهم الأخلاق , والعقول والآداب , والألسنة , واللغات , والعادات , والصور , والشمائل عفواً بلا كلفة ولا غرم , ولا عزم ولا حيلة , فيشاهدون ما لم تشاهده قبيلة ... فكثرت الخواطر , واتسع السماع , وانفسحت الصدور بالغرائب التى تتخذ , والأعاجيب التى تحفظ , فثبتت تلك الأمور فى صدورهم وأضمرت... والقوم فى الأصل مرشحون للأمر الجسيم , فذلك صاروا أدهى العرب , وأعقل البرية , وأحسن الناس بياناً , وصار أحدهم يوزن بامة من الأمم , وكذلك ينبغى أن يكون الإمام , فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يزن جميع الأمم . ومنها ثبات جودهم , وجزيل عطاياهم , واحتمالهم المؤن الغلاظ فى أموالهم المكتسبة من التجارة , ... وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشدد فى الدين , فتركوا الغزو كراهة للسبى واستحلال الأموال , فلما زهدوا فى الغصوب لم يبق مكسبة سوى التجارة , فضربوا فى البلاد إلى قيص بالروم , والنجاشى بالحبشة , والمقوقس بمصر , وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء , فكانوا مع طوا ترك الغزو إذا غزوا كالأسود فى فرائسها , مع الرأى الأصيل , والبصيرة النافذة . فهذا يسير من كثير من خصائصهم فى الجاهلية , ولما جاء الله تعالى بالإسلام , وبعث منهم خير خلقه , وأفضل رسله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تظاهر شرفهم , وتضاعف كرمهم , وصاروا على الحقيقة أهلاً لأن يدعو أهل الله . وسأل عمر بن الخطاب رضى الله عنه نافع بن عبد الحارث الخزاعى حين قدم عليه من مكة من استخلفت على مكة . قال : ابن أبزى . قال : أتستخلف على أهل الله مولى .؟! قال : إنه أقرؤهم لكتاب الله تعالى . قال : إن الله تعالى يرفع بالقرآن أقواماً . وقال الاعشى وهو يعاتب رجلاً ويخبر أنه مع شرفه لم يبلغ مبلغ قريش:
فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا * ولا لك حق الشرب فى ماء زمزم ([12])
ولقد وصفهم الجاحظ , ومدح بنى هاشم بقوله : " قد علم الناس كيف كرم قريش وسخاؤها , وكيف عقولها و ودهاؤها , وكيف رأيها وذكاؤها , كيف سياستها وتدبيرها , وكيف إيجازها وتحبيرها , وكيف رجاحة أحلامها إذا خف الحليم , وحدة أذهانها إذا كل الحديد , وكيف صبرها عند اللقاء , وثباتها فى اللأواء , وكيف وفاؤها إذا استحسن الغدر , وكيف جودها إذا حب المال , وكيف ذكرها لأحاديث غد , وقلة صدودها عن جهة القصد , وكيف إقرارها بالحق , وثبرها عليه , وكيف وصفها له , ودعاؤها إليه , ... بل قد علم الناس كيف جمالها وقوامها , وكيف نماؤها وبهاؤها , وكيف سروها ونجابتها , وكيف بيانها وجهارتها , وكيف تفكيرها وبداهتها , فالعرب كالبدن وقريش روحها , وقريش روح وبنو هاشم سرها ولبها , وموضع غاية الدنيا والدين منها ..." ([13])

(2) المقدمة صـ 765 ط دار الفكر – 01421) – (2001) م , و دراسات فى فقه اللغة صـ 112 للدكتور/ صبحى الصالح – ط دار العلم للملايين – ط الثانية عشرة – (1989) م .
(3) لغة قريش صــ276 ,277 للأستاذ/ مختار الغوث. والنص السابق نقله عن المزهر 1/210
(1) فلقد روى الأصمعى أن معاوية قال : أى الناس أفصح ؟ فقال رجل من السماط : يا أمير المؤمنين قوم ارتفعوا عن رتة العراق , وتياسروا عن كشكشة بكر [ أى إبدال الشين من كاف الخطاب للمؤنث ] وتيامنوا عن شنشنة تغلب [ أى جعل الكاف شيناً مطلقاً ] ليست فيهم غمغمة قضاعة [ أى سماع الصوت مع عدم تبين تقطع الحروف ] ولا طمطمانية حمير [ أى كون الكلام مشبهاً لكلام العجم ] . قال : من هم ؟ قال : قومك يا أمير المؤمنين [ قريش ] قال : صدقت فمن أنت ؟ قال : من جرم . قال الأصمعى : جرم فصحاء العرب . العقد الفريد – كتاب اليتيمة فى النسب وفضائل العرب – فضل قريش 3/274 , وما بعدها – ط دار الكتب العلمية – ط أولى – (1404) هــ (1983) م , والبيان والتبيين 3/212 ,213 وزاد فى الخبر من قول الأعرابى " قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات [أى العجمة فى المنطق ] وتيامنوا عن عنعنة تميم [ قولهم فى موضع إن عن ] وتياسروا عن كسكسة بكر [ أى جعل بعد كاف المذكر أو مكانها سيناً ]هذا ولقد وصف العباس بن مرداس السلمى بنى عبد المطلب فى الجاهلية بأن منطقهم كالوبل على المحل . وإن كان الممدوح هاهنا ربما كان البلاغة لا اللغة القرشية . ولقد عقب أبو حيان التوحيدى على كلام العباس بن مرداس بقوله : " ولقد قرع العباس بهذا الكلام باب الغيب , وشعر بالمستور , وأحس بالخافى , وأطلع عقله على المستتر ... وهذا شئ فا شفى العرب لطول وحدتها , وصفاء فكرتها , وجودة بنيتها , واعتدال هيئتها , وصحة فطرتها , وخلاء ذرعها , واتقاد طبعها , وسعة لغتها , وتصاريف كلامها فى أسمائها , وأفعالها , وحروفها , وجولانها فى اشتقاقاتها , ومآخذها البديعة فى استعاراتها وغرائب تصرفها فى اختصاراتها , ولطف كناياتها فى مقابلة تصريحاتها , وفنون تبحبحها فى أكناف مقاصدها , وعجيب مقاربتها فى حركات لفظها , وهذا وأضعافه مسلم لهم , وموفر عليهم , ومعروف فيهم , ومنسوب إليهم ... إلى أن قال : إلى غير ذلك مما خصت به فى جاهليتها قبل الإسلام مما لا سبيل إلى دفعه وجحوده ... " الإمتاع والمؤانسة صـ53 لأبى حيان التوحيدى ط مكتبة المصطفى . كما تنبه إلى ذلك جرير الشاعر لما زار مكة , واجتمع بطائفة من فتيان قريش , وسره ما رأى من طبائعهم فقال يعبر عن إعجابه بهم فى خبر طويل : " ... فكيف ومع هذا بيت الله الحرام , ووجوهكم الحسان , ورقة ألسنتكم " لغة قريش صـ33 نقلاً عن الأغانى 1/278 , وراجع فى العقد الفريد كلام عمرو بن عتبة فى وصف كلام قريش 3/274 , وما بعدها .
(2) لغة قريش صـ278 نقلاً عن البرهان 1/285
(3) لغة قريش صـ279 نقلاً عن المزهر 1/213
(4) لغة قريش صـ33 نقلاً عن البيان والتبيين 1/146
(1) يقول الأستاذ/ سعيد الأفغانى : " ولا يقل عن النشاط التجارى فى أسواقنا تلك أثر هذا الاختلاط فى اللغة والدين والعادات , فإن قيام قريش عليها الأعوام الطويلة قبل البعثة مكنها من أن تتبوأ فى اللغة المكان الأعلى ؛ لأن لغات القبائل عامة يمنيها , وعمانيها و وشاميها , وعراقيها و ونجديها , وتهاميها تطرق مسامعها على الدوام فتختار منها ما يحسن , وتنفى منها ما يقبح , وقامت على هذا الاصطفاء زمناً كافياً حتى خلصت لها هذه اللغة الممتازة , وتهيأت لينزل بها القرآن على أفصح وجه وأبلغه , وأتمه كمالاً وسلاسة وجمالاً " أسواق العرب فى الجاهلية والإسلام صـ 91 , وما بعدها ط مكتبة دار العروبة – ط رابعة – (1413) – (1993) م. والصاحبى فى فقه اللغة صــ13 , وتاريخ آداب العرب 1/82 للرافعى – ط مكتبة الإيمان
(2) فصول فى فقه العربية صـ 78-80 للدكتور/ رمضان عبد التواب – ط مكتبة الخانجى – ط ثانية .
(3) مما تجدر الإشارة إليه هنا ما زعمه أكثر المستشرقين من أن اللغة التى نزل بها القرآن ليست لغة قريش , وأن من قال ذلك من المسلمين كان منساقاً مع عاطفته الدينية ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قرشى , والقرآن منزل عليه فلابد من أن تكون لغته لغة قريش , ومثل هذا القول فى التأثر بالعاطفة – فى نظرهم – ما وصفوا به لغة قريش من الفصاحة والسمو على سائر اللغات . وعلى اتفاق هذه الطائفة فى هذا الرأى تختلف فى لغة القرآن ماهى ؟ ألغة قبيلة أم لغة أدبية نشأت من بين اللغات ؟ وأين نشأت ؟ ومتى ؟ وكيف ؟ . وثمة طائفة صغيرة من المستشرقين تخالف آراء الطائفة الأولى , وتميل إلى قول لا يوافق علماء المسلمين لكنه يقاربه . والطائفة الأولى , وبعض الثانية يذهبون إلى أن العرب كان لهم مستويان من اللغة : أدبى هو لغة الشعر والخطابة , وعامى لأمور الحياة العادية . ويمثل الطائفة الأولى : بروكلمان , ورابين , وفولرز , وكاله , وشبتيالر , ونللينو , وفتشتاين , وبلاشير , وآربيرى , وجويدى , وهارتمن , وزويتلر . والفئة الثانية من المستشرقين على خلافها مع الأولى ليست متفقة فيما بينها , فنولدكة مثلاً لا يرى أنه كانت للعرب لغة عامية , وأخرى أدبية مشتركة . أما عن المحدثون من العرب فلقد انقسموا فى هذه القضية قسمين : قسم يرى ما ذهب إليه الأقدمون من أن لغة قريش هى أفصح اللغات العربية , وأن القرآن نزل بها – وإن كان فى آراء بعضهم تأثر بآراء المستشرقين – فهم يرون أن هذه اللغة الفصحى التى هى لغة قريش أنها كانت لغة طبيقة , أى تختص بفئة من العرب كالشعراء , والخطباء . والقسم الثانى من المحدثين المتأخرين - وما يزال أكثرهم حياً - لا يكاد يختلف فى شئ عن آراء المستشرقين . وما ذكروه من وجود لغة مشتركة أو مثالية يتفق العرب جميعاً على استعمالها فى الأدب , ومقامات الجد ... كلام لا سند له ولا أساس له من الصحة , ولم يظهر هذا الكلام إلا فى العصر الحديث , ويبدو أن الاستشراق هو الذى أدخل هذا الرأى إلى الفكر اللغوى الحديث , وتأثر به - للأسف - بعض المحدثين العرب من المفتونين بكل ما جاء عن المستشرقين , واقتنعوا بوجود مستويين من اللغة عند العرب !! وقارئ التراث اللغوى لا يجد فيه إشارة إلى هذين المستويين , كما لا يجد ما يفيد أن العربى كان يعدل عن لغته إلى لغة سواها لأمر من الأمور إلا أن يضطره وزن أو قافية . ومن ينشد الحق , ولم تستعبد قلبه تآليف المستشرقين , وآثر الصدق مع نفسه , لا يسعه إلا أن ينكر وجود لغة مشتركة , وأخرى عامية , بل ويبالغ فى الإنكار ؛ لأن الأدلة كلها تقود إلى خلاف رأى المستشرقين , ومن تابعهم . فرواة اللغة الموثقون الذين تخللوا المناطق التى قرروا انها مظنة الفصاحة , ودونوا لغة أهلها لم يذكروا أن لهم مستويين من اللغة , مع أنهم سجلوا كلام الصغير والكبير , والرفيع والوضيع , والعاقل والمجنون , وكلام النساء والإماء . ولمزيد من التفصيل ينظر لغة قريش صـ282 , وما بعدها . وهو بحث قيم , وأصله رسالة تقدم بها المؤلف لنيل درجة - التخصص - الماجستير فى كلية الآداب – جامعة الملك سعود – سنة (1411) هــ . وقد ألم فيه الأستاذ/ مختار الغوث بأطراف الموضوع , وفصل الأدلة , وكر على أدلة المستشرقين ففندها , ودمغها بالأدلة القاطعة , والبراهين الساطعة , فجزاه الله خير الجزاء .
(4) وهذا مما شهد به المستشرقون . فلقد أشار جيوم فى مقدمته لكتاب تراث الإسلام للغة العربية , ووصفها بأنها لغة عبقرية فى مرونتها واشتقاقاتها ... كما أشار ماسينون إلى بعض جوانب العبقرية فى اللغة العربية فقال : إن المنهاج العلمى انطلق أول ما انطلق باللغة العربية , ومن خلال العربية فى الحضارة الأوربية ... إن اللغة العربية أداة خالصة لنقل بدائع الفكر فى الميدان الدولى . ينظر اللغة العربية والصحوة العلمية الحديثة صـ10 ,11
(1) راجع تفصيل ذلك وأمثلته فى كتاب الصاحبى صـ16 – 25 لابن فارس – ط عيسى البابى الحلبى .
(2) ثمار القلوب صــ10-16 باختصار شديد ط دار المعارف – (1384)هـ(1965) م .
(1) زهر الآداب 1/87 – 89 باختصار ط المكتبة العصرية – ط أولى – (1421)هـ (2001) م .
المبحث الثانى : اللغة التى نزل بها القرآن :
حديثنا هنا عن اللغة التى اختارها الله لأفصح كتاب , والتى قال عنها فى سياق الحديث عن القرآن
مخاطباً النبى صلى الله عليه وسلم : ( وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربى مبين )[ الشعراء : 192 – 195 ]

" فتنزيله بالعربية التى هى لسانك , ولسان قومك تنزيل له على قلبك ؛ لأنك تفهمه , ويفهمه قومك . ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك ؛ لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها . وقد يكون الرجل عارفاً بعدة لغات فإذا كلم بلغته التى لقنها أولاً ونشأ عليها وتطبع بها لم يكن قلبه إلا إلى معانى الكلام يتلقاها بقلبه , ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت وإن كلم بغير تلك اللغة وإن كان ماهراً بمعرفتها كان نظره أولاً فى ألفاظها ثم فى معانيها , فهذا تقرير أنه نزل على قلبه بلسان عربى مبين "([1])
وتحليل الزمخشرى للآية هنا تحليل دقيق ينم عن فهم وعلم بأثر اللغة فى صاحبها , وكيف يتشربها عقله وقلبه حتى تكون جزءاً من كيانه ووجدانه , والتعبير بنزول القرآن على قلب النبى هنا له دلالته الموحية المعبرة عن استقرار القرآن ورسوخه فى قلب النبى صلى الله عليه وسلم , وذلك يدل على ثبات القرآن وحفظه فى صدره , كما يدل على الإدراك الكامل لمعانيه , وذلك شأن ما يستقر فى القلب ([2]) فلو عبر بنزول القرآن على اللسان فقط فلربما سبق إلى الفهم أن الأمر فيه مقتصر على أداء اللفظ القرآنى .
أما نزوله على القلب فبيان لثبوت اللفظ والمعنى للنبى صلى الله عليه وسلم , وتقرير لبيان القرآن وتفصيله على لسان النبى صلى الله عليه وسلم , وتقرير للفهم الكامل , وأن الوحى قد تقرر على لسان النبى لفظه , وثبت فى قلبه بيانه , وتأمل فى دلالة " على " فى سياق الآية فهى توحى بمعنى استعلاء القرآن واستقراره وتمكنه من قلب النبى صلى الله عليه وسلم على غرار قوله تعالى فى شأن المتقين : ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) فما أدق تعبير القرآن وأروعه .
"هذا واللغات السبع المشهورة بالفصاحة فى العرب العرباء : هى لغة قريش , وهذيل , وهوازن , واليمن , وطئ , وثقيف , وبنى تميم " ([3]) والقرآن الكريم إنما نزل بلغة قريش فى معظمه وأكثره , ولقد أشار السيوطى إلى ما وقع فى القرآن بغير لغة الحجاز فى النوع السابع والثلاثين من كتابه الإتقان ([4]) كما أشار إلى ذلك صاحب البرهان فى أكثر من موضع من كتابه([5]) وقال أبو حاتم السجستانى : " نزل القرآن بلغة قريش , وهذيل , وتميم , والأزد , وربيعة , وهوازن , وسعد بن بكر " .
وقال أبو عبيد فى الأحرف السبعة : " ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات , بل اللغات السبع مفرقة فيه , فبعضه بلغة قريش , وبعضه بلغة هذيل , وبعضه بلغة هوازن , وبعضه بلغة اليمن وغيرهم "([6])
وقال الباقلانى : " ولم تقم حجة قاطعة على أن القرآن بأسره نزل بلغة قريش , بل ثبت أن فيه همزاً وقريش لا تهمز , بل ثبت أن فيه حروفاً وكلمات بغير لغة قريش . ويجزى من الدليل قوله : ( إنا جعلناه قرآناً عربياً ...) ولم يقل قرشياً , فلم يجز لأحد أن يدعى أن المراد بـالعربى لغة قريش خاصة ؛ لأن ذلك يدخل عليه ادعاء غيره أنه منزل بلغة ربيعة , أو قحطان , بل اسم العرب يتناول جميع قبائل العرب . ولو ساغ لمدع أن يدعى أنه إنما أراد قريشاً وحدها لساغ لآخر أن يدعى أنه إنما أراد قبيلة من قريش " ([7])
وقال أبو عمر بن عبد البر فى التمهيد : " قول من قال : نزل بلغة قريش معناه عندى فى الأعم الأغلب ؛ لأن لغة غير قريش موجودة فى جميع القرآن من تحقيق الهمزة , ونحوها , وقريش لا تهمز ... " ([8]) وهذا ما ذهب إليه الأزهرى وابن مالك أيضاً . ولقد نقل السيوطى فى النوع السابع والثلاثين ما وقع فى القرآن بغير لغة الحجاز .
واستنكر ابن قتيبة ذلك , وقال : " لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش , واحتج بقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ...) [ إبراهيم : 4 ] فعلى هذا تكون اللغات السبع فى بطون قريش , وبذلك جزم أبو على الأهوازى "
وذهب أبو شامة مذهباً توفيقياً مخالف فى وجهته لمذهب هؤلاء , فالقرآن عنده أنزل أول مرة بلسان قريش , ثم أذن للعرب أن يقرءوه على لغاتهم تسهيلاً , ولم يكلف أحداً منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية , ولطلب تسهيل فهم المراد ([9])
فالقرآن الكريم على هذا الرأى نزل أولاً بلسان قريش , ثم أذن للعرب أن يقرءوه على لغاتهم من الأحرف التى كان ينزل بها جبريل على النبى بعد الحرف الأول لما طلب النبى صلى الله عليه وسلم الزيادة عليه تيسيراً على الامة , فكان جبريل ينزل بهذه الأحرف فى عرضاته على النبى صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن ينزل من ألفاظ اللغات الأخرى التى تدعو إليها الحاجة , ثم كان أن استقر الأمر آخراً بعد زوال الضرورة على هذا الحرف , وهو لغة قريش ([10])
(1) الكشاف 3/340
(2) ومن كلام شيخ زادة النفيس فى بيان هذه الآية قوله : " ... إذ القرآن متلبس بكسوة الحروف والألفاظ إنما أنزل على روح رسول الله لا مجرد الجسد , إذ ليس للجسد حظ من إدراك المعانى الروحية . والقلب وسائر الأعضاء آلات الإدراك , والمكلف والمخاطب والمدرك إنما هو الروح لا الأعضاء والآلات . إلا أنه يجوز أن يراد بالقلب العضو المخصوص كما هو المتبادر عند إطلاقه , فحينئذ يكون جعل القرآن نازلاً على فلبه مع أنه نازل عليه لا على عضوه مبنياً على كون القلب موضعاً لقوة العقل والفهم . فإن الروح إنما تدرك بتلك القوة المودعة فى القلب , فلا جرم تنتقل المعانى الروحانية النازلة على الروح إلى القلب لما بينهما من التعلق على الوجه المذكور ... فالقرآن كلام الله تعالى وصفته القائمة به كساه كسوة الألفاظ المركبة من الحروف العربية , ونزله إلى جبريل , وجعله أميناً عليه , ثم نزل به كما هو على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعرفه ويتخلق بخلقه , ويتنور بأنواره , ويتخلى بحقائقه و ففهمه وتمكن من تفهيمه لغيره , فهو عليه أفضل الصلاة والسلام مختص بهذه الرتبة العلية والكرامة السنية من سائر الانبياء , فإن كتبهم أنزلت عليهم بالألواح والصحائف جملة واحدة , فهى منزلة على صورهم وظاهرهم لا على قلوبهم . حاشية شيخ زادة 6/ 361 , 362 , وحاشية الشهاب 7/ 36 , 37
(3) الكليات صـ 796
(1) الإتقان 3/ 904 – 933 ط مجمع الملك فهد للمصحف الشريف .
(2) البرهان 1/ 11, 283 ط المكتبة العصرية – بيروت . هذا ولقد ذكر ابن حسنون فى كتابه " اللغات فى القرآن " اللغات التى نزل بها القرآن على ترتيب السور , وكذلك أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتابه لغات القبائل الواردة فى القرآن .
(3) الإتقان 1/322
(4) نكت الانتصار لنقل القرآن صـ 385 , 386 ط دار المعارف بالإسكندرية , ولغة القرآن لغة العرب المختارة صــ48 د/ محمد رواس ط دار النفائس .
(5) البرهان 1/ 284 , وتفسير القرطبى 1/33 , والنشر فى القراءات العشر 1/ 23 – 33 هذا ولقد ذكر أبو بكر الواسطى فى كتابه الإرشاد فى القراءات العشر فى القرآن من اللغات خمسون لغة : لغة قريش , وهذيل , وكنانة , وخثعم , والخزرج , وأشعر , وجرهم , وكندة , وتميم , وخزاعة , وغطفان , وسبأ , وعمان , وثعلب , وعامر بن صعصعة , وهوازن , واليمامة... إلخ كما أشار إلى ذلك الزركشى فى البرهان عند حديثه عن الأحرف السبعة مبيناً فى الوجه الرابع أن المراد سبع لغات لسبع قبائل من العرب , وليس معناه أن يكون فى الحرف الواحد سبعة أوجه , أى نزل على سبع لغات متفرقة فى القرآن , فبعضه نزل بلغة قريش , وبعضه بلغة تميم , وبعضه بلغة هوازن , وكذلك سائر اللغات , ومعانيها فى هذا كله واحدة . البرهان 1/217 ويراجع للاستزادة الإتقان 1/134-136 ط دار الفكر .
(6) الإتقان 1/322 ,323, 3/ 904-933 , وفنون الأفنان صـ214 – 219 لابن الجوزى ط دار البشائر الإسلامية – ط أولى – (1408)هــ (1987) م. ولغة قريش صــ281 للأستاذ/ مختار الغوث ط دار المعراج – ط أولى – (1418)هــ(1997) م.
(1) المدخل لدراسة القرآن الكريم صـ180 ,181 للدكتور/ أبو شهبة ط دار اللواء – ط ثالثة – (1407) هـ (1987) م , ولغة قريش صــ281
الإيجاز والإطناب والمساواة :

الإيجاز :
الإيجاز باب عظيم من أبواب البلاغة، بل بعضهم عرف البلاغة بأنها الإيجاز، فلقد سأل معاوية بن أبى سفيان صُحار بن عَيَّاش العبدى ما تعدون البلاغة فيكم؟ قال: الإيجاز(1).
وعرفه صاحب المفتاح بأنه "أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط"(2).
"ومتعارف الأوساط الذين ليس لهم فصاحة وبلاغة، ولا عى وفهاهة"(3).
وهو ضربان:
* الأول: إيجاز القِصَر: وهو ما ليس يحذف كقوله تعالى: ) وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ((4) فإنه لا حذف فيه مع أن معناه يزيد على لفظه، لأن المراد به أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتَل قُتل كان ذلك داعياً له قوياً إلى ألا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذى هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض فكان ارتفاع القتل حياة لهم، وفَضَلُه على ما كان عندهم أوجز كلاماً فى هذا المعنى، وهو قولهم: "القتل أنفى للقتل"(5).
* الثانى: وهو ما يكون بحذف، والمحذوف إما جزء جملة أو جملة أو أكثر من جملة.
- وجزء الجملة المحذوف إما مضاف كقوله تعالى: ) وَاسْأَلِ القَرْيَةَ...((6) أى أهلها.
- وإما صفة: كقوله تعالى )... وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً( (7) أى كل سفينة صحيحة، أو صالحة أو نحو ذلك بدليل ما قبله. وإما غير ذلك.
- وإما كان المحذوف جملة، فهو إما مسبب ذكر سببه كقوله تعالى: ) لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ( (8). أى فعل ما فعل.
- وإما سبب ذكر مسببه كقوله تعالى: )... فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ...((9). أى امتثلتم فتاب عليكم وإما غير ذلك.
- وقد يكون المحذوف أكثر من جملة كقوله تعالى: ) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى...( (1).
أى ضربوه ببعضها فحيى فقلنا: " كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى ".
- والحذف على وجهين:
- أحدهما: ألا يقام شئ مقام المحذوف.
- ثانيهما: أن يقام مقـامه ما يدل عليه كقـوله تعالى: ) فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ...( (2). ليس الإبلاغ هو الجواب لتقدمه على توليهم والتقدير: فإن تولوا فلا لوم علىَّ لأنى قد أبلغتكم" أى فلا عذر لكم عند ربكم لأنى قد أبلغتكم.
- وأدلة الحذف (3) كثيرة: منها أن يدل العقل على الحذف، والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف كقوله تعالى: )حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ....( (4). فالمقصود الأظهر يرشد إلى أن المقصود حرم عليكم نكاح أمهاتكم.
- ومنها أن يدل العقل على الحذف والتعيين كقوله تعالى: ) وَجَاءَ رَبُّكَ.....( (5). أى أمر ربك أو عذابه أو بأسه أو غير ذلك من أدلة الحذف (6).

* الإطناب وأقسامه :
ذكر صاحب الطراز: "أن الإطناب وادٍ من البلاغة، ولا يرد إلا فى الكلام المؤتلف، ولا يختص بالمفردات؛ لأن معناه لا يحصل إلا فى الأمور المركبة" (7).
وعرفه صاحب المفتاح بأنه: "أداء المقصود من الكلام بأكثر من عباراتهم سواءٍ كانت القلة أو الكثرة راجعة إلى الجمل أو إلى غير الجمل (8).
وذكر الخطيب تسعة من أقسامه وهى: "الإيضاح بعد الإبهام وفروعه، والتوشيع، وذكر الخاص بعد العام، والتكرير، والإيغال، والتذييل، والتكميل "الاحتراس"، والتتميم، والاعتراض".
وأشار إلى أن الإطناب قد يكون بغير هذه الأنواع"(1). وسأكتفى بالإشارة إلى الأقسام التى ذكرها القونوى فى حاشيته حرصاً على الاختصار فيما لا يحتاج البحث إليه، وهى:
الإيضاح بعد الإبهام(2)، وذكر الخاص بعد العام، والتكرير، والتذييل والتكميل، والاعتراض.

1- الإيضاح بعد الإبهام وفروعه:
ذكر الخطيب أن الإطناب يكون بالإيضاح بعد الإبهام، ليرى المعنى فى صورتين مختلفتين، أو ليتمكن فى النفس فضل تمكن، فإن المعنى إذا ألقى على سبيل الإجمال والإبهام، تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح، فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك، فإذا ألقى كذلك تمكن فيها فضل تمكن، وكان شعورها به أتم، أو لتكمل اللذة بالعلم به، فإن الشئ إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدم حصول اللذة به ألم، وإذا حصل الشعور به من وجه تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول، فيحصل لها بسبب المعلوم لذة، وبسبب حرمانها من الباقى ألم، ثم إذا حصل لها العلم به حصلت لها لذة أخرى، واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التى لم يتقدمها ألم، أو لتفخيم الأمر وتعظيمه كقوله تعالى: ) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي( (3). فإن قوله )اشرح لى( يفيد طلب شرح لشئ ماله، وقوله )صدرى( يفيد تفسيره وبيانه، كذلك قوله )ويسر لى أمرى( والمقام مقتضى للتأكيد للإرسال المؤذن بتلقى المكاره والشدائد(4).

2- ذكر الخاص بعد العام :
ذكر البلاغيون أن ذكر الخاص بعد العام يكون للتنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنسه تنزيلاً للتغاير فى الوصف منزلة التغاير فى الذات كقوله تعالى: ) مَن كَانَ عَدُواًّ لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ( (5).

وهذا النوع يجب أن يكون بطريق العطف وإلا كان من باب الإيضاح بعد الإبهام؛ ولذلك عقب سعد الدين على الخطيب بقوله: "فلو قال وإما بعطف الخاص على العام لكان أوضح"(6)

3- التكرير :
وهو ذكر الشئ مرتين أو أكثر لأغراض(1). أو دلالة اللفظ على المعنى مردداً لتأكيد غرض من أغراض الكلام أو المبالغة فيه(2).
- كتأكيد الإنذار كما فى قوله تعالى: ) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ((3).
- وقد يكرر اللفظ لطول فى الكلام كما فى قوله تعالى: ) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ((4).
- وقد تكرر لتعدد المتعلق كما فى قوله تعالى: ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( (5).
لأنه تعالى ذكر نعمة بعد نعمة، وعقب كل نعمة بهذا القول، ومعلوم أن الغرض من ذكره عقيب نعمة غير الغرض من ذكره عقيب نعمة أخرى(6).

4- التذييل :
وهو تعقيب الجملة بجملة تشتمل على معناها للتوكيد وهو ضربان :
- الأول: ضرب لا يخرج مخرج المثل لعدم استقلاله بإفادة المراد، وتوقفه على ما قبله كقوله تعالى: ) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الكَفُورَ ( (7). إن قلنا: إن المعنى: وهل نجازى ذلك الجزاء(8).
وقال الزمخشرى: "وفيه وجه آخر، وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة ويستعمل تارة فى معنى المعاقبة، وأخرى فى معنى الإثابة، فلما استعمل فى معنى المعاقبة فى قوله )جزيناهم بما كفروا( بمعنى: عاقبناهم بكفرهم قيل: "وهل نجازى إلا الكفور" بمعنى وهل نعاقب؟ وهو الوجه الصحيح(9).
- الثانى: ضرب يخرج مخرج المثل كقوله تعالى: ) وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ( (10).
5- التكميل أو الاحتراس(1) :
وهو أن يؤتى فى كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه، وهو ضربان :
- الأول: ضرب يتوسط الكلام كقول طرفه :
فسقى دياركَ غيرَ مفسدها :. صوب الربيع وديمة تهمى(2)
فالصوب: المطر، والديمة: المطر المسترسل، وتهمى بمعنى تسيل والاحتراس فى قوله "غير مفسدها" لأن المطر المسترسل قد يخرب الديار.
-الثانى: ضرب يقع فى آخر الكلام كقوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ ….. ( (3).
فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لتوهم أن ذلتهم لضعفهم، فلما قيل (أعزة على الكافرين) عُلم أنها منهم تواضع لهم ولذا عدى الذل بعلى لتضمينه معنى العطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع، ويجوز أن تكون التعدية بعلى لأن المعنى أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم (4).

6- الاعتراض :
وهو أن يؤتى فى أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى ما ذكر فى تعريف التكميل.
ويأتي الاعتراض لأغراض بلاغية :
- كالتنزيه والتعظيم فى قوله تعالى : ) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ((5)
- والتنبيه على سبب فيه غرابة كقوله تعالى: )لو تعلمون( من قولة تعالى : ) فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (6)(.
والاعتراض قد يأتى بالواو أو الفاء ، وتسمى كل منهما اعتراضيه، وقد لا يأتى بهما.
- ووجه حسن الاعتراض على الإطلاق حسن الإفادة مع أن مجيئه مجئ مالا معول عليه فى الإفادة، فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها.
- ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض البلاغيين لا يشترط فى الاعتراض أن يكون واقعاً فى أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى، بل يجوز أن يقع فى آخر كلام لا يليه كلام، أو يليه كلام غير متصل به معنى، وبهذا يشعر كلام الزمخشرى فى مواضع من الكشاف فالاعتراض عند هؤلاء يشمل التذييل.
وفريق آخر يشترط فى الاعتراض أن يكون واقعاً بين كلامين متصلين، ولكن لا يشترط أن يكون جملة أو أكثر من جملة، فالاعتراض عند هؤلاء يشمل من التتميم ما كان واقعاً فى أحد الموقعين ومن التكميل ما كان واقعاً فى أحدهما وليس له محل من الإعراب جملة كان أو أقل من جملة أو أكثر"(1)

* المساواة :
وهى تأدية المعنى المراد بعبارة مساوية له بأن تكون المعانى بقدر الألفاظ، والألفاظ بقدر المعانى لا يزيد بعضها على بعض وهى الأصل المقيس عليه، والدستور الذى يعتمد عليه … وقد اعتبرها بعض البلاغيين وسطاً بين الإيجاز والإطناب، وبعضهم يدمجها ولا يعدها قسماً ثالثاً لهما، وقد عدها من الإيجاز الرمانى وابن رشيق والعلوى فى الطراز وسماها التقرير(2).
(1) ينظر البيان والتبين 1/96.
(2) ينظر المفتاح ص155 ، 156.
(3) ينظر المطول ص882، والفهَّة: السقطة فى الحديث كما فى مختار الصحاح ص280.
(4) الآية (179) من سورة البقرة.
(5) ينظر الإيضاح 2/104، 105.
(6) من الآية (82) من سورة يوسف.
(7) من الآية (79) من سورة الكهف.
(8) الآية (8) من سورة الأنفال.
(9) من الآية (54) سورة البقرة.
(1) من الآية (73) من سورة البقرة.
(2) من الآية (57) من سورة هود.
(3) أى الحذف الذى لا يقام فيه شئ مقام المحذوف لأنه هو الذى يحتاج إلى ذلك.
(4) من الآية (23) من سورة النساء.
(5) من الآية (22) من سورة الفجر.
(6) ينظر الإيضاح 2/115، 116 باختصار.
(7) ينظر الطراز ص314.
(8) ينظر المفتاح ص156.
(1) ينظر الإيضاح 2/117 – 136.
(2) وملحق به بحث الإجمال والتفصيل لكونه فرعاَ من فروع الإطناب.
(3) الآيتان (25 ، 26) من سورة طه.
(4) ينظر الإيضاح 2/117 باختصار.
(5) الآية (98) من سورة البقرة.
(6) ينظر الإيضاح 2/119، والمطول ص 292
(1) ينظر جواهر البلاغة ص183 ط دار ابن خلدون.
(2) ينظر خزانة الأدب 1/361 ، والبلاغة الغنية للأستاذ/ على الجندى ص 182.
(3) من سورة التكاثر.
(4) الآية (119) من سورة النحل
(5) سورة الرحمن.
(6) ينظر الإيضاح 2/120.
(7) الآية (17) من سورة سبأ.
(8) وهو جزاء الاستئصال لوروده فى أهل سبأ الذيين اسؤصلوا بالعقوبة، فهو جزاء خاص بخلاف ما سيأتى عن صاحب الكشاف.
(9) ينظر الكشاف 3/586.
(10) الآية (81) من سورة الإسراء.
(1) وجه تسميته بالتكميل لتكميله المعنى برفع إبهام خلاف المقصود، وأما تسميته بالاحتراس فلأن حرس الشئ يعنى حفظه، وهذا النوع فيه حفظ للمعنى ووقاية له من توهم خلاف المقصود ينظر الاحتراس فى ضوء القرآن للدكتور/ قاسم خليفة – بحث بحولية كلية الدراسات الإسلامية.
(2) هو لعمرو بن العبد المعروف بطرفة ينظر الإيضاح 2/125.
(3) من الآية (54) من سورة المائدة.
(4) الإيضاح 2/125.
(5) الآية (57) من سورة النحل.
(6) الآيات (75 – 77) من سورة الواقعة.
(1) ينظر الإيضاح 2/132،133
(2) ينظر العمدة 1/250، والطراز ص259، والايضاح 2/97.